للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالعربية ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين". ومنهم عمرو بن فائد الذي ظل يفسر القرآن الكريم للناس ستا وثلاثين سنة، وما ختمه حتى مات؛ لأنه كان حافظا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع، ومنهم القاسم بن يحيى الضرير الذي لم يكن في القصاص مثله، ومنهم صالح المري وكان صحيح الكلام شديد التأثير في سامعيه١.

واتسعت في هذا العصر المناظرات الكلامية، وحمل لواءها المعتزلة من أصحاب واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، ولم يكن همهم أن يردوا على مخالفيهم من الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الذي كان يقول بالجبر، والمرجئة الذين قالوا بأنه لا يجوز تكفير المسلم، ولا الحكم على أعماله، حتى لوة ارتكب كبيرة. لم يكن همهم أن يردوا على هاتين الفرقتين فقط، بل انصرف همهم إلى الرد على الدهرية والزنادقة، ونراهم في عصر المأمون يدعون إلى أن القرآن ليس أزليًّا، إنما هو مخلوق، واستطاعوا أن يؤثروا في المأمون حتى اعتنق فكرتهم، وأعلنها عقيدة رسمية للدولة، وأخذ في امتحان من يؤمنون بها في آفاق دولته، على نحو ما كان يمتحن جده المهدي الناس في عقيدة المانوية، وتبعه المعتصم في تلك السيرة، حتى إذا ولي المتوكل ترك الناس وشأنهم.

ولا نبالغ إذا قلنا: إن المتكلمين من معتزلة، وغير معتزلة نهضوا بالنثر العباسي نهضة رائعة، فقد كان المتكلم لا يحسن الكلام والاحتجاج لآرائه إلا إذا أخذ نفسه بثقافة فلسفية واسعة، يقول الجاحظ: "ولا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما"٢، ولم يكونوا يتثقفون بالثقافة الفلسفية وحدها، بل كانوا يتثقفون أيضا بكل ضروب الثقافات التي عرفت لعصرهم، حتى يجمعوا "التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة،


١ انظر في هؤلاء القصاص البيان والتبيين ١/ ٣٦٨، وما بعدها.
٢ الحيوان ٢/ ١٤٣.

<<  <   >  >>