للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وآثار القول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، والحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة والأمثال السائرة"١، ويعترف الجاحظ بقيمة ذلك كله فيقول: "ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم لقد خس حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة، ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا، وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة، وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر فاسدا، ولكل الحد وتبلد العقل"٢.

والجاحظ المتكلم لا يعبر بهذا الكلام عن وجهة نظره وحده، وإنما يعبر عن وجهة نظر المتكلمين جميعا لعصره، فقد انكبوا على قراءة الكتب المترجمة من الفلسفة وغير الفلسفة، ففتقت عقولهم وفتحت لهم مسالك، وأبوابا من الفطن وقد أقبلوا في شوق شديد على التثقف بالإسلام وتعاليمه، وباللغة العربية وكنوزها النثرية والشعرية، ويكفي أن يقرأ الإنسان "البيان والتبيين" للجاحظ وكذلك "الحيوان" ليقف على مدى ثقافته العربية، وهي في الكتاب الأخير تعانقها ثقافة عامة واسعة.

ولا نقرأ فيما خلفه هؤلاء المتكلمون حتى يبهرنا لسنهم، وقدرتهم على الحجاج والإقناع، وقد كانت المناظرة في موضوع من الموضوعات تنعقد أحيانا بين اثنين منهم، فتظل أياما لا في أصول الدين، ولا في الرد على الملحدين فحسب، بل في كل موضوع يمكن أن يفد إلى أذهانهم، وقد ملأ الجاحظ نحو مجلد من كتابه الحيوان بمناظرة انعقدت بين معبد، والنظام في الكلب والديك أيهما أفضل، وظل يورد أدلة كل منهما في صورة رائعة، وهي صورة تدل دلالة بينة على مدى ما أصابه هؤلاء المتكلمون من تنويع لأفكارهم، وتصحيح لمقدماتهم


١ الحيوان ١/ ٤٢.
٢ الحيوان ١/ ٨٥.

<<  <   >  >>