للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتصريف لأساليبهم وألفاظهم، وإذا كانت القدرة البيانية بلغت باثنين منهم هذا المبلغ في مساوئ الديك ومحاسنه، ومنافع الكلب ومضاره، فما بالك بما كان يجري بينهم في مسائل الدين واستقصاء كل مسألة وجمع معانيها، وترتيب أفكارها وألفاظها؟ ومن يقرأ ما يرويه الجاحظ عن النظام في كتابه الحيوان يعجب أشد العجب من استنباطه للمعاني والأدلة، سواء تحدث في الحيوان، أو في الرد على الدهرية والمانوية، أو على خصومه من المتكلمين، أو في بيان نظرياته في الروح والحواس، والتولد والجسم والعرض، والخير والشر والاستطاعة والكمون، والتداخل والحركة والسكون، ويشيد به الجاحظ في غير موضع من حيوانه، ومن قوله فيه وفي المتكلمين: "إنه لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل.. ولولا أصحاب إبراهيم "النظام"، وإبراهيم لهلكت العوام من المعتزلة، فإنه قد أنهج لهم سبلًا، وفتق لهم أمورًا، واختصر لهم أبوابا، ظهرت فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة"١، وقال في موضع آخر: "كان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ.. وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه.. جودة قياسه على العارض، والخاطر، والسابق الذي لا يوثق بمثله"٢، فهو يأخذ عليه أنه كان لا يصحح مقدمات القياس.. وأكبر الظن أنه إنما كان يلجأ إلى ذلك حين تعوزه الحجة، فكان يراوغ ويعتل، حتى يشك خصمه وسامعيه، وكان يذهب هذا المذهب نفسه خاله أبو الهذيل العلاف، وكان يقول: خمسون شكا خير من يقين واحد٣، أما النظام فكان يقول: لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن، وكانوا يقولون: "العوام أقل شكوكا من الخواص؛ لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من الشك التي تشتمل على طبقاته"٤.


١ الحيوان ٤/ ٢٠٦.
٢ الحيوان ٢/ ٢٢٩.
٣ الحيوان ٣/ ٦٠.
٤ الحيوان ٦/ ٢٥، وما بعدها.

<<  <   >  >>