للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يعد هناك شيء لا يقبل الشك، والجدل في هذه البيئة التي استطاعت حقا أن تمرن اللغة العربية على أداء معان لم تتعود أداءها، وإنك لتقرأ كلامها، فلا تشعر بأي تكلف أو شفقة، أو التواء أو عسر، فقد أصبحت اللغة طيعة على ألسنتهم، وأصبحت مرنة مرونة عجيبة، سواء تكلموا في مسائل فلسفية عويصة، أو في مسائل كلامية دقيقة، وتحس حقا كأنهم بحار تتدفق، فلا تعثر ولا توقف. وقد وقف الجاحظ في البيان والتبيين يشيد إشادة رائعة ببلاغتهم١، وعرض لأحدهم، وهو ثمامة بن أشرس فوصفه بقوله: "ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك، وقال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه، كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف، حيث يقول:

له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف"٢

وهذا الوصف الذي وصف به الجاحظ ثمامة ينطبق على كل متكلم في عصره، فقد مرنوا على الجدال، ومكايلة الألفاظ وموازنة المعاني وعرضها، بخفيات حدودها ودقائقها، والحوار فيها والجدال، ومحاولة إقناع الخصوم وإسكاتهم وبلغوا من ذلك كل مبلغ، حتى سموا المتكلمين فهم أرباب الكلام، وأصحابه الذين يعرفون كيف ينصبون أنفسهم للدفاع عن آرائهم، وكيف يقدمون البراهين الواضحة، والحجج الصحيحة.

واقرأ كتاب الحيوان للجاحظ، فلن تجد موضوعا إلا خاضوا فيه، واستخرجوا منه معانيه، حتى لتظن أنه لم يكن هناك أديب بارع إلا وتستهويه تلك الجماعة وتجذبه إلى ميادينها، ليبحث في الأسباب الكونية ومسبباتها، والعلل ومعلولاتها، ويدخل في صفوف هؤلاء الذين ملأوا قلوب الناس إعجابا بمناظراتهم ومجادلاتهم.


١ البيان والتبيين ١/ ١٣٩.
٢ البيان والتبيين ١/ ١١١.

<<  <   >  >>