وقد دعتهم رغبتهم في إحكامهم لمناظراتهم، ومناقشاتهم أن يبحثوا بحثا واسعا في بلاغة الكلام، وكيف يبلغ المتكلم بكلامه الكفاية وغاية الحاجة، بل كيف يروع السامعين ببيانه، وحلاوةو ألفاظه وحسن مخارج حروفه، حتى تسكن القلوب إليه وتثلج الصدور، ويزخر كتاب البيان والتبيين بوصاياهم التي كانوا يسوقونها إلى تلاميذهم في مجالسهم، وكثيرًا ما كانوا يدعون هؤلاء التلاميذ إلى المناظرة بين أيديهم، ليمرنوهم ويدربوهم، وليروا مقدار براعتهم، وهم أثناء ذلك يبدون ملاحظات مختلفة على إشارتهم وحركاتهم، وأصواتهم وعلى ألفاظهم وأقوالهم وأساليبهم، وعلى براهينهم وأدلتهم وأقيستهم، وعللهم وما يداخل ذلك كله من فلتات خطإ وسقطات وهم، وبذلك كانوا أول من وضع قواعد البيان العربي، وقد أخذوا أثناء هذا الوضع يحاولون الإطلاع على ما عند الأجانب من هذه القواعد، يقول الجاحظ في بيانه:"قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة، وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وربما؟؟؟ الإضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك وأحق بالظفر"١. ويقول الجاحظ: إن معمرا المتكلم قال لبهلة الهندي: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكن لا أحسن ترجمتها، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها، ويلقى معمر بالصحيفة التراجمة فإذا فيها: "أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد