للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة.. وممن قد تعود حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة، والمبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفح، وعلى وجه الاستطراف والتطرف.. ويكون لفظه مونقا، ولهول ذلك المقامات معاودا. ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، وللحمل عليهم على أقدار منازلهم"١.

ومعنى ذلك كله أن المتكلمين لم يكتفوا بملاحظاتهم الشخصية في بلاغة الكلام، بل طلبوا ما عند الأجانب، ويلح الجاحظ وغيره منهم على فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهي صريحة في الصحيفة الهندية، وأغلب الظن أنها تسربت إليهم أيضا في بعض ما ترجم لأفلاطون من محاورات، أو لأرسطاطاليس من كلام في الخطابة، وربما سمعوها من المسيحيين السريان الذين كانوا يكثرون من جدالهم، ويحدثنا الجاحظ أن بشر بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة، وهو يعلم بعض الفتيان الخطابة، فدفع إليه بصحيفة من تحبيره٢، تجمع قواعد البلاغة، وكيف يحسن الخطيب في خطابته، متحاشيا التوعر وجالبا الألفاظ التي تروق السامع، وقد بنيت الصحيفة على فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وأن واجب الخطيب أن يلائم بين موضوعه ومعانيه، وبين ظروف السامعين، فإن إحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، فلا يكلم الخاصة بكلام العامة ولا العامة بكلام الخاصة، بل يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها أقدار المستمعين وأقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا يلائمها، حتى تفهم عنه، وحتى يصل إلى ما يريد من استحالتها بلطف مداخله وعذوبة ألفاظه.

ونفذوا في أثناء هذه الوصايا إلى وضع كثير من المصطلحات البيان العربي، ومن يرجع إلى الحيوان والبيان، والتبيين يجد اصطلاحات التشبيه، والحقيقة، والمجاز


١ البيان والتبيين ١/ ٩٢.
٢ البيان والتبيين ١/ ١٣٥، وما بعدها.

<<  <   >  >>