للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والاستعارة والكناية والالتفات، وحسن الخروج والاعتراض، وتأكيد المدح بما يشبه الذم والإيجاز والإطناب والاقتباس، كل ذلك يدور فيهما، وقد وقف الجاحظ طويلا في فاتحة البيان عند فصاحة الألفاظ، وتنافر الحروف وصنوف اللثغة فيها، فإذا قلنا: إن هذه البيئة هي التي وضعت قواعد البلاغة، والفصاحة لم نكن مبالغين، وإذا قلنا أيضا: إن هذه البيئة هي التي أتاحت للغة العربية مرونة الأساليب على أداء المعاني الدقيقة لم نكن مغالين، بل إننا نقول: إنها هي التي وضعت نماذج التعبير العباسي البليغ، فقد كانت تنفي الألفاظ المتوعرة الوحشية عن كلامها، كما كانت تنفي الساقط السوقي، فاختارت بذلك لغة متوسطة تقوم على الألفاظ الرشيقة ذات المخارج السهلة، كما تقوم على ضرب من التلاؤم الموسيقي هو نفسه الذي لاحظناه قبلا عند أسلافها من وعاظ العصر الأموي، والذي يكسو الكلام كسوة الازدواج، والترادف الصوتي البديع.

وكان كبار الأدباء في القرن الثاني جميعه يتخذون هذا الأسلوب الفصيح الوسط إمامهم ومثلهم، سواء أكانوا مترجمين مثل ابن المقفع، أم مدبجين لرسائل أدبية طريفة مثل سهل بن هرون، وقد بلغ القمة التي كانت تنتظره عند الجاحظ المتكلم، وهو أسلوب كان يوازن دقيقة بين طرافة المعاني، وإثارة الجمال في نفس القارئ والسامع، ولكن بدون كد ومجاهدة، ولذلك نسلك أصحابه في مذهب الصنعة، فهم لا يبالغون في تكلفهم، ولا يستدعون الألفاظ من بعيد، ولا يدققون فيها كل التدقيق، ولا يصفونها كل التصفية.

وبينما كان هذا المذهب قائما عند المتكلمين، وكبار الأدباء، والمترجمين كانت طلائع مذهب ثان من التصنيع، والتجميل تأخذ طريقها في بيئة الكتاب الرسميين من أصحاب الدواوين، فقد أخذوا يهذبون لغة رسائلهم السياسية غاية التهذيب، وما زالوا يبالغون في أناقة تعبيرهم، ودقة أذواقهم، حتى انفصلوا انفصالا تماما عن أسلوب الازدواج إلى أسلوب كله قطع زخرفية أنيقة، أو بعبارة أخرى أسلوب كله سجع وتنميق، وسنعرض لهذا المذهب في موضع آخر، أما الآن فنعني بأهم من نموا مذهب الصنعة في العصر العباسي بتأثير الثقافات الأجنبية الدخيلة، وهم ابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وكان أولهم مترجما، أم سهل والجاحظ فكان أديبين يعنيان بكتابة الرسائل والكتب الأدبية، ولعلهما من أجل ذلك كانا يهتمان بفنهما تجويد أساليبهما أكثر من اهتمام ابن المقفع، إذ كان اهتمامه ينصب غالبا على ما يترجمه ونقل معانيه، لا على طريقة الأداء والتحبير فيه.

<<  <   >  >>