للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والله ما أدري أين رميت به، قال: لكني أدري أنك رميت به في بطنك، والله حسيبك"١. ويروى أن أبا الهذيل العلاف المتكلم المعروف طلب إليه رقعة إلى الحسن بن سهل يوصيه به، فكتب له كتابا، وذعهب به إلى الحسن، فلما فضه أغرب في الضحك، إذ وجد فيه هذه الأبيات:

إن الضمير -إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي

فامنحه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد

حتى إذا طالت شقاوة جده ... وعنائه فاجبهه بالرد

وإن استطعت له المضرة فاجتهد ... فيما يضر بأبلغ الجهد

فلما راجعه أبو الهذيل قال له: أين عزب عنك الفهم؟ أما سمعت قولي: إن الضمير خلاف ما أبدي؟ فلو لم يكن ضميري الخير ما قلت هذا"٢، وقالوا: إن المأمون انحرف عنه، فدخل عليها يومًا، وقال: يا أمير المؤمنين! إنك ظلمتني وظلمت فلانا الكاتب، فقال له: ويلك وكيف؟ قال: رفعته فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك له في ذلك أشد ظلما، قال: كيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ وأقمتني مقام رحمة، فضحك المأمون، وقال له: قاتلك الله! ما أهجاك! "٣. وقصوا عنه أنه خاطب بعض الأمراء، فقال له: كذبت، فقال: أيها الأمير! إن وجه الكذاب لا يقابلك -يعني الأمير بذلك- لأن وجه الإنسان لا يقابله٤.

وكل هذه الأحاديث والنوادر المروية عن سهل تدل على ذكائه، وفطنته وخفه روحه، وصدق الجاحظ إذ يقول: إنه كان سهلا في نفسه تحكم له برقة الذهن ودقته، فهو فكه، وهو لسن شديد العارضة، وفي لهجة لسانه وأسلوب منطقه ما يجعلنا نحس الصلة الشديدة بينه، وبين الجاحظ، إذ يعد امتدادا -من بعض الوجوه- لهذا اللسان ونموا لهذا القعل وما طوى فيه من حجاج وجدل.


١ الحيوان ٢/ ٣٧٤ وانظر سرح العيون ص١٣٣.
٢ سرح العيون ص ١٣٤.
٣ نفس المصدر ص ١٣٤.
٤ سرح العيون ص ١٣٤.

<<  <   >  >>