تعظيمه لهما، يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما ما ليس عندهما، حتى يفرط في الإشفاق، ويسرف في التهمة، فالأولى يزيد في حقهما الذي هلما في نفسه، والآخر ينقصهما من حقه لتهمته لنفسه، وإذا كان الحب يعمى عن المساوئ، فالبعض يعمى عن المحاسن، وليس يعرف حقائق مقادير المعاني ومحصول حدود لطائف الأمور إلا عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القوي المنة، والوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكبر".
وأنت ترى في هذه القطعة المجموعتين من التلاوين العقلية، والصوتية تلتقيان في أسلوب سهل في غير مشقة ولا تكلف، إذ تندمج في صياغته القدرة على التحليل والتعليل بالقدرة على صوغ اللفظ، وتحبيره والاتساع به حتى يؤدي ضروبا من التوقيع الصوتي والترادف الموسيقي، وما من شك في أن ذلك كله كان خطوة نحو أسلوب الجاحظ، الذي سنراه ينهض نهوضا واسعا بالطرفين من التلاوين العقلية والصوتية، ومهما يكن فقد كان سهل يوفر لألفاظه، ومعانيه عناية واسعة، وهي عناية جعلته أحد البلغاء عصره في صنع الرسائل الطويلة وتحبيرها، إذ كان ما يزال يحتال على الرسالة من رسائله بتلاوينه العقلية، وتحاسينه الصوتية، فإذا هي تستوي في صورة بديعة من الفن والصناعة، والجمال والطلاوة.