"لو أن رجلين خطبا أو تحدثا، أو احتجا أو وصفا، وكان أحدهما جميلا، بهيا، ذا لباس نبيلا، وذا حسب شريفا، وكان الآخر قليلا قميئا، وباذ الهيئة دميما، وخامل الذكر مجهولًا، ثم كان كلاهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي وزن واحد من الصواب، لتصدع عنهما الجمع، وعامتهم تقضي للقليل الدسيم، على النبيل الجسيم، وللباذ الهيئة على ذي الهيئة، ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبه، ولصار التعجيب منه سببا للعجب به، ولكان الإكثار من شأنه علة للإكثار في مدحه؛ لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد، فإذا هجموا منه على ما لم يحتسبوه، وظهر منه خلاف ما قدروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم؛ لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطراف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كمان أعجب كان أبدع، وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان، وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم به أكثر، والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البديع، وليس لهم في الموجود الراهن المقيم، وفيما تحت قدرتهم من الرأي، والهوى مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ، ولك ما كان في ملك غيرهم، وعلى ذلك زهد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم، وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هم أعم نفعا، وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مئونة وأكثر فائدة، ولذلك قدم بعض الناس الخارجي على العريق١، والطارق على التليد، وكان يقول: إذ كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجلا يعطي كلاهما من التعظيم والتفضيل، والإكبار والتبجيل، وعلى قدر حالهما في نفسه، وموقعها من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيما، والخوف من أن يكون
١ الخارجي: يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم.