للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خصائص موسيقية في خصائص أخرى عقلية نلمحها في هذا الجدل، وهذا الحوار وما يبدو عليه من تلاوين عقلية أحدثتها الثقافة الفلسفية في تفكيره، وأدائه لمعانيه، وقد كان يعرف كيف يوازن بين هذه التلاوين العقلية، وما سبقها من تلاوين موسيقية، فتخرج أساليبه وقد التمعت عليها شيات من التأمل والعقل الدقيق، كما التفت عليها شيات أخرى من التوقيع، والترادف الموسيقي، وسنرى هذه الشيات جميعا تمتد تحت أعيننا في كل ما دبج الجاحظ، وحبره من كتب ورسائل، وإنه ليتأثر في هذه النزعة سهلا من طرف، وبيئة المتكلمين الذين نشأ فيهم من طرف آخر، وكأنما كان أسلوب العصر هو أسلوب الجدل الحوار، ولعل مما يشهد لذلك عند سهل ما يروى من أن شخصا مدح الذهب فأطنب، ثم قام النظام فذج الزجاج وأطنب، فاعترضهما سهل يفضل الزجاج على الذهب في رسالة طويلة لم يبق لنا منها إلا هذه اللمعة١:

"الزجاج مجلو نوري، والذهب متاع سائر، والشراب في الزجاج أحسن منه في كل معدن، لا يفقد معه وجه النديم، ولا يثقل اليد، ولا يرتفع في السوم، واسم الذهب يتطير منه، ومن لؤمه سرعته إلى اللئام، وهو فاتن فإنك "غالب" لمن صانه، وهو أيضا من مصايد إبليس، ولذلك قالوا: أهلك الرجال الأحمران "الذهب والزعفران". والزجاج لا يحمل الوضر، ولا يداخله الغمر٢، ومتى غسل بالماء وحده عاد جديدا، وهو أشبه شيء بالماء، وصفته عجيبة، وصناعته أعجب".

ونحن لا نجد أي فارق بين هذه الطريقة في الحجاج، وبين طريقة الجاحظ في حجاجه، إذ كان يركب مثل هذا المركب في كل ما يكتب ويؤلف، كأنه يريد أن يغرب عن الناس دائما بتفكيره، فهو يخرج على مألوفهم ومعتادهم بآراء شاذة يسوقها في جدل عنيف، وقد رويت في البيان والتبيين لسهل قطعة في الخطابة والخطباء، وهي من هذا اللون، إذ نرى سهلا فيها يفضل الخطيب قبيح السمت على الخطيب حسن السمات على هذا النحو٣:


١ سرح العيون ص ١٣٥.
٢ الغمر: الدسم، والوضر: وسخه.
٣ انظر البيان والتبيين ١/ ٨٩.

<<  <   >  >>