للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أحد أنهار بلدته، وهذا هو كل ما لدينا عن نشأته وحداثته، على أننا لا نمضي معه في حياته حتى نراه يترك نهر سيحان إلى أنهار الثقافة في عصره، فهو يغدو على المربد يسمع من الأعراب الفصحاء، ويختلف إلى حلقات العلماء في المسجد الجامع، يأخذ عن علماء اللغة وغيرهم، وكانت أهم حلقة تعجبه حلقة المتكلمين، وأقبل على قراءة كل ما ترجم من الثقافات الأجنبية، ويقصون عن شغفه بالقراءة قصصًا كثيرة، فهم يقولون: إنه كان لا يقع في يده كتاب إلا ويقرأه من أوله إلى آخره١، ويروي صاحب الفهرست أنه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للقراءة والنظر٢.

وهذا العكوف على القراءة هو الذي جعل كتبه، ورسائله أشبه ما تكون بدوائر معارف، فليس هناك جدول من جداول الثقافة في عصره، إلا وتسربت منه فروع، ومنعطفات إلى كتابات وتأليفاته، وإن كتبه من هذه الناحية لتشبه تمام الشبه معارضنا الحديثة، فأنت منذ دخولك أنت منذ دخولك في فواتح هذه المعارض تلقى صناعات مختلفة من كل جنس، وكذلك أنت منذ دخولك في كتب الجاحظ تجده يعرض تحت بصرك جميع ألوان الثقافة التي عاصرته من هندية، وفارسية ويونانية وعربية، وهو يجمع ذلك في شكل مشعث، إذ بينما تراه بتحدث إليك عن حديث شريف أو آية قرآنية، إذ هو يتحدث عن حكمة يونانية، وبينما يحدثك عن زرادشت والمانوية، إذ هو يحدثك عن الإسلام والنبوة، وبينما يحدثك عن العرب، وشعرهم إذ هو يحدثك عن نظرية الكمون عند المعتزلة، أو عن نظريته في أن المعارف طباع، وحتى هو إن كتب في البيان عند العرب تجده يبحث لك عن رأي الهند واليونان والفرس في البلاغة.

وكان الجاحظ من المعتزلة، وهو تلميذ النظام في اعتزاله٣، وأشاد به مرارًا في حيوانه كما أشاد بغيره من المعتزلة أمثال بشر بن المعتمر، وثمامة بن الأشرس وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم، وقد استطاع خلال اعتزاله أن ينفذ إلى تأليف


١ أمالي المرتضى ١/ ١٩٤.
٢ الفهرست ص ١٦٩، وانظر معجم الأدباء ١٦/ ٧٥.
٣ نزهة الألبا ص ٢٥٤.

<<  <   >  >>