للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبجانب ذلك نجده يعني أيضا بألفاظه، وأساليبه عناية من شأنها أن تجعله يدقق في انتخاب ألفاظه، وأن يقطع عباراته تقطيعات صوتية طريفة، وهي تقطيعات انزلقت به إلى فنون من التكرار الموسيقي، كي تتم له الموازنة بين لفظه ومعناه، تلك الموازنة التي انتهت به إلى أن يعشق الأداء الدقيق لمعانيه، وأن يعشق معه الوصف الحسي الصحيح لما شاهد، مما آذن بظهور الواقعية في كتبه، وأيضا فإنه كان يرى أن يخرج دائما في رسائله، وكتاباته من باب إلى باب حتى لا يمل القارئ، مما طبع أعماله جميعا بطابع الاستطراد، وأكبر الظن أننا لا نبعد إذا قلنا: إن الصفات الفنية الأساسية في كتابات الجاحظ هي الواقعية، والاستطراد وضروب من التلوين الصوتي، وأخرى من التلوين العقلي بحيث لا تقرأ أي أثر من آثاره، إلا وتجد هذه العناصر الأربعة لصنعته ماثلة تحت عينيك إذ يسعى الجاحظ دائما إلى أن يروي لك الوقائع كما هي دون تمويه، كما يسعى إلى الاستطراد في تآليفه حتى لا يسأم القارئ، ولا يناله شيء من الكد والسوق العنيف، وأيضًا فإنه كان يشفع كتاباته دائمًا بتلوين صوتي أنيق، وتلوين عقلي بديع، وسنقف لنفصل هذه العناصر الأربعة لصنعة الجاحظ، وهي الواقعية والاستطراد، والتلوين الصوتي، والتلوين العقلي.

الواقعية:

من يتابع الجاحظ في صنعة كتبه، ورسائله يجده يشغف بحكاية الواقع، لا يتستر، ولا يتخفى، حتى إنه ليذكر السوءات، والعورات في غير مواربة ولا مداجاة، وكأنه كان يرى أن يذكر الحقائق عارية دون أن يسدل عليها أي ستر أو أي حجاب، ودافع مرارا عن هذا المنهج، وقال: إن من يعدل عنه لا بد أن يكون صاحب رياء ونفاق، وهو ليس من أهل الرياء والنفاق، بل هو من أهل الصراحة، أو هو بعبارة أدق من أصحاب منهج الواقعية "Realism" الذين لا يداجلون، ولا ينافقون بل يصفون الأشياء، كما هي في غير تحرج، ولا تأثم حتى إنهم لا يخجلون من وصف بعض النزعات الجنسية؛ لأنهم يريدون أن يصفوا

<<  <   >  >>