للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحياة كما هي بدون تغيير، ولا تبديل إلا في حدود التعبير الفني.

وهذه النغمة من الواقعية من آثار الجاحظ أثرت في كتاباته آثارًا مختلفة، ولعل أول هذه الآثار أننا نجده يعني بحكاية عصره، وتمثيله تمثيلا دقيقا بحيث تعد أعماله أهم مراجع تكشف لنا حقائق العصر الذي عاش فيه، إذ نراه يصور هذه الحقائق بكل ما فيها من طهر ووزر، ودين وزندقة، وجد ولهو، وبالغ في ذلك حتى إنه ليروي كلام المجانين الموسوسين، وكلام أهل الغفلة من النوكي والحمقى١، وإنه ليروي أيضا عن الغلمان، والصعاليك والزط واللصوص كما يروي عن الخلفاء والأمراء، والوزراء وقواد الدولة وكبار كتابها، وارجع إلى كتاب البخلاء، فإنك تراه يعرض عليك بخلاء عصره من مثل سهل بن هارون والكندي، وابن غزوان والحارثي، والحرامي في غير تصنع ولا مداراة، وفيم يتصنع الجاحظ ويداري؟ إنه يريد أن يجعل الأدب صورة من الواقع، وهو لذلك لا يستعين على كتابة بخلائه بالتاريخ، أو ذاكرة الماضي، إنما يستعين بمفكرة الحاضر والعصر الذي يعيش فيه، وقد عرف كيف ينقله إلينا بجميع طبقاته وأفراده، وملامحهم، وخصائصهم النفسية.

وأثر ثان أثرته الواقعية في كتابات الجاحظ، وهو ما يلاحظ عليه من تدقيقه في ألفاظه، وانتخابها بحيث تلائم ما يصفه، أو يصوره حتى إنه ليحكي كلام المولدين، والعوام بما فيه من لحن، وخطأ لينقل إليك الواقع بكل ما فيه، يقول في البخلاء: "وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا، أو كلاما غير معرب أو لفظًا معدولا عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك؛ لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده إلا أن أحكي كلاما من كلام متعاقلي البخلاء، وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه"٢، فهو يحكي دائما أخباره، وحوادثه بلغتها الدقيقة، وأكبر الظن أن هذه النزعة فيه هي التي حملته على أن يلهج في كتبه، ورسائله كثيرًا بفكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال٣، ومن قوله بصدد ذلك: "إن


١ انظر البيان والتبيين ٢/ ٢٢٥، وكذلك ٢/ ٣٤٤. وأيضًا ٤/ ٥، وما بعدها.
٢ البخلاء ١/ ٧٨.
٣ الحيوان ٣/ ٤٣، وانظر البيان والتبيين ١/ ١٣٨.

<<  <   >  >>