للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكل معنى شريف أو وضيع، هزل أو جد، حرقة أو صناعة، ضربًا من اللفظ هو حقه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه"١، وفي هذا ما يدل على شدة عنايته بالملاءمة بين الألفاظ ومعانيها، ولعله من أجل ذلك كان يدعو إلى "النظر في مواقع الألفاظ، وأين استعملتها العرب"٢.

وأثر ثالث أثرت به الواقعية في كتابات الجاحظ وأعماله، وهو ما يمتاز به من عدم عنايته بالتشبيهات، والاستعارات إلا ما جاء عفو الخاطر، أو كان الغرض منه تمثيل الواقع، وهذا طبيعي عند الجاحظ؛ لأنه لم يكن يعمد إلى زينة لفظية عشقا للزينة من حيث هي على نحو ما سنعرف فيما بعد عند أصحاب مذهب التصنيع، فالكتابة عنده ليست زخرفا خالصًا يراد به إلى الوشي، والحلي، وما يندمج في ذلك من صور، وتشبيهات، واستعارات، بل هي معان تؤدى في دقة، تفسر الوقائع، والأحداث تفسيرًا لا تستره أسجاف الاستعارات والأخيلة، وليس معنى ذلك أن الجاحظ لم يكن دقيق التصوير، فإنه إنما عزف عن الأخيلة، لما تضع أمام القارئ من مبالغات، أما بعد ذلك، فإنه كان مصورًا عظيمًا، إذ كان يعرف كيف ينقل المشاهد بجميع تفاصيلها، ودقائقها تسعفه في ذلك قدرة غريبة على الملاحظة، وهي قدرة جعلته يحسن التصوير من جهة كما يحسن القصص من جهة أخرى، ويتضح ذلك من كتابه البخلاء حين يرسم جشع النهمين، وحركات أيديهم، وقسمات وجوههم، كما يتضح في كتاب الحيوان وما أودعه من قصص، ومن قصصه البارعة فيه التي تصور دقة تصويره ما حكاه عن عبد الله بن سوار القاضي، ووقاره في قصصه الديني ووعظه، وأنه كان لا يحرك أثناء كلامه رأسه ولا يديه حتى كأن كلامه يخرج من صدع صخرة، فألح الذباب عليه يومًا، وما زال به حتى أخرجه عن طبعه، فاستعان يتحرك أجفانه، ولم يجده ذلك نفعا فذبه عن وجهه بيديه، فابتعد عنه قليلا ثم عاد إليه، فدفعه بطرف كمه، وما زال يتابع ذلك، يقول٣:


١ رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص ١٥٩.
٢ البيان والتبيين ١/ ٢٠.
٣ الحيوان ٣/ ٣٤٣.

<<  <   >  >>