للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كله يعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا، وقد علمت أني عند الناس من أزمت١ الناس، فقد غلبني، وفضحني أضعف خلقه، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .

وواضح أن القصة تعتمد عل دقة التصوير، وهي دقة ترسم الواقع رسما أمينًا، بدون تهويل، أو مبالغة أو اعتماد على استعارات، وتشبيهات إلا ما يأتي عفوًا للإيضاح لا للتجميل والتزيين.

الاستطراد:

وإذا كانت الواقعية عنصرا أساسيا في أعمال الجاحظ، فإن هناك عنصرا آخر عم آثاره، وربما كان أهم من عنصر الواقعية، وهو عنصر الاستطراد إذ يلاحظ كل من يقرأ في الجاحظ حالًا من التشعث في التأليف، فهو دائما ينتقل من باب إلى باب، ومن خبر إلى خبر، ومن شعر إلى فلسفة ومن جد إلى هزل في تشعب هائل، حتى ليقول كارا دي فو: إن الموضوع عند الجاحظ ليس إلا وسيلة للاستطراد٢، وقد أشار إلى هذا الاستطراد قديما المسعودي في كتابه مروج الذهب٣، وقد كان الجاحظ يتخذه منهجا في تأليفه وخاصة في حيوانه وبيانه، واعترف به مرارا واحتج له، انظر إليه يقول في الحيوان: "قد عزمت -والله الموفق- أني أوشح هذا الكتاب، وأفصل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة والأوتار الفصيحة


١ أزمت الناس: أشدهم وقارا وسكونا.
٢ Carra de Vaux, Les Pensecurs De L'Islam Vol. I, p. ٢٩٥.
٣ مروج الذهب ٤/ ١٣٦.

<<  <   >  >>