للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلا في طريق الراحلة التي إذا طالت أورثت الغفلة، وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال، وكثر أصلح"١، ويقول أيضا: "ولولا أني أتكل على أنك لا تمل باب القول في البعير حتى تخرج إلى الفيل، وفي الذرة حتى يخرج إلى البعوضة، وفي العقرب حتى تخرج إلى الحية، وفي الرجل حتى تخرج إلى المرأة، وفي الذبان والنحل حتى تخرج إلى الغربان والعقبان، وفي الكلب حتى تخرج إلى الديك، وفي الذئب حتى تخرج إلى السبع، وفي الظلف حتى تخرج إلى الحافر، وفي الحافر حتى تخرج إلى الخف، وفي الخف حتى تخرج إلى البرثن، وفي البرثن حتى تخرج إلى المخلب، وكذلك القول في الطير وعامة الأصناف، لرأيت أن جملة الكتاب، وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يمل، ويعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، ولك مصحف منها فهو أم على حدة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول، حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدًا مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون جمامًا لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية، ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفًا إذا كنت إنما استعملت سيرة الحكماء، وآداب العلماء"٢.

وإذا فالجاحظ يعترف بأنه يستطرد، وبأنه يعمد إلى ذلك عمدا خشية ملل القارئ وسآمة السامع، واحتج لصنيعة بأن الأوائل قد سارت في كتبها هذه السيرة، إذ يقول: إنه إنما يستعمل سيرة الحكماء وآداب العلماء، ولسنا ندري أي حكماء، وعلماء يشير إليهم إلا أن يكون قد أشار بذلك إلى بعض ما ترجم للعرب من كتب الهند التي يشبه البيروني ما فيها "بصدف مخلوط بخزف، أو


١ الحيوان ٣/ ٧.
٢ الحيوان ١/ ٩٣.

<<  <   >  >>