للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بدر ممزوج ببعر، أو بمهي مقطوب بحصى"١، وإن من يتصفح كتاب كليلة ودمنة يجد ظاهرة الاستطراد واضحة فيه، على أن هناك علة لاستطراد الجاحظ ذكرها صراحة في حيوانه إذ يقول: "قد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أو ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب ... فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ، ومن سوء تأليف، أو من تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه، فلا تنكره بعد أن صورت لك حالي التي ابتدأت عليه كتابي"٢، فهو يعترف بأن مرضه أدخل الخلل على تأليف حيوانه، ومر بنا أنه ألفه وهو مفلوج، وألف بعده كتاب البيان والتبيين٣، فظهر فيه الخلل والاستطراد بأوسع مما ظهرا في كتاب الحيوان، لا لسبب إلا؛ لأن العلة طالت عليه، وكأن ما أمضه منها كان له أثره في بلبلة أفكاره واضطرابها، وحدوث كثير من النشاز فيها، فهو برم بمرضه قلق، وهو برم أيضا بما يعرض في بيانه لا يكاد يستقر عند موضوع يصفه، وإنه ليقول فيه: "كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم، وأوصافهم أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء ونقسم أمورهم بابا بابا على حدته، ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة"٤، فهو يقر بعجزه عن التنظيم، والتنسيق لما كان من مرضه، ولما كان أيضًا من قلة الأعوان كما يقول في الحيوان، ومن ثم كان من يقرأ في كتبه يخيل إليه أن لم يكن يعرف التركيز في تأليفه، إذ ما تزال الأفكار تندفع علينا من كل صوب في غير نظام ولا سياق مطرد، بل فكرة من هنا، وفكرة من هناك في صورة واضحة من التشعب والتشعث، وقد ساعده على ذلك ثقافته الواسعة بجميع معارف عصره من هندية، وفارسية ويونانية، وإسلامية وعربية، وإن الإنسان ليعجب إذ يقرأ الصفحة في حيوانه، فيجد هذه الثقافات


١ تحقيق ما للهند من مقولة ص١٢.
٢ الحيوان ٤/ ٢٠٨.
٣ ذكر الجاحظ في البيان أنه ألفه بعد الحيوان. انظر البيان والتبيين ٣/ ٣٠٢.
٤ البيان والتبيين ١/ ٣٠٦.

<<  <   >  >>