كلها قد وضع بعضها بجانب بعض، وكأنه حين كان يكتب -بل حين كان يملي كما سنرى بعد قليل- كانت تنطلق إليه سيول المعرفة من كل واد، فيتركها تنزلق إلى آثاره بطبيعتها التي أطبقت بها عليه.
التلوين الصوتي:
هذا هو العنصر الثالث في كتابات الجاحظ، فنحن لا نقرأ له أي عبارات من تأليفه، حتى نجده يعني بأصواته عناية تفضي إلى ضروب مختلفة من الإيقاعات الصوتية، ولم يكن يستعين على تجميل هذه الإيقاعات بشيء من البديع وألوانه، بل كان يكتفي بها لتعبر عن كل ما يريد من جمال لأسلوبه وطلاوة، وليس معنى ذلك أنه كان يستخدم السجع، أو أسلوبا مقاربا منه، فإن السجع لم يكن يصلح له في تأليف كتبه، ورسائله الطويلة، لذلك عدل عنه إلى ضروب من الإيقاعات، وهي إيقاعات كان يستعين عليها بصور مختلفة من التكرار والترداد، واستمع إليه كيف يستهل حيوانه١:
"جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبًا، وبين الصدق سببا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة".
وهذه هي النغمات الأولى في الكتاب، وعلى أساسها ينصب جميع النغم الذي نقرؤه فيه، إذ نرى الجاحظ يحاول دائما أن يجود لفظه، وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى دائما إلى إحداث ضروب من التوقيع، وهو توقيع كان يلتمسه من معادلة ألفاظه معادلة لا تنتهي إلى السجع، ولكنها تنتهي إلى هذا التوازن الصوتي الدقيق، فكل جملة تقابل أختها في موازين الجاحظ الموسيقية، ويه موازين تحقق لصيغة هذا اللون من الجمال الموسيقي الذي كان يسميه القدماء ازدواجا، ونسميه إيقاعا وتلوينا صوتيا بديعا، وهو تلوين كان يدفع الجاحظ دفعا