للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى ضروب من التكرار والترادف، واستمر مع الجاحظ في الحيوان، فستراه يقول بعد هذه النغمات الأولى من الكتاب بقليل١:

"إن كل من التقط كتابًا جامعًا، وبابا من أمهات العلم مجموعا كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كده، مع تعرضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عرضه عقله المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة.. وهذا كتاب نستوي في رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك، كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو، كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل، كمنا يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي، كما يشتهيه الفطن".

وهكذا ينطلق الجاحظ في كتاباته -على نحو ما نرى الآن في حيوانه- بهذا النفس الواسع المسترسل الذي لا يتعثر ولا يتلجلج، بل ينطلق في هذا الفيض العذب، وكأنما لا يعوقه في طريقة عائق لا من لفظ، ولا من تعبير، وانظر إليه يقول بعد ذلك في وصف الكتاب٢:

"الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا، وإن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار، ومن لك بطبيب أعرابي، ومن لك برومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت ممتع، ومن لك بشيء يجمع لك الأول الآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر والشاهد والغالب، والرفيع الوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده".


١ الحيوان ١/ ١٠.
٢ الحيوان ١/ ٣٨، وما بعدها.

<<  <   >  >>