في هذا ما يجعلنا نفهم لماذا سميت الرسالة باسم رسالة التربيع والتدوير، فقد بناها الجاحظ على هذه الفكرة التي نؤمن بأنه استعارها من فكرة الأوساط اليونانية المعروفة في الأخلاق، لكن بعد أن حورها، وعدلها على هذا النحو، فإذا هي لا تثار في الأخلاق، وإنما تثار في الأجسام، وفي هجاء أحمد بن عبد الوهاب، وقد كان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بهذه الفكرة، وذكرها مرارًا في كتبه ورسائلة، بل ذكرها في هذه الرسالة نفسها، إذ يقول لابن عبد الوهاب:"اعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة؛ كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والسرف ما جاوز الجود، وأنت -جعلت فداك- لا تعرف هذا، ولو أدخلتك الكور١، ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور"، وما من ريب في أن الجاحظ عبر عن طرافة مدهشة، حين استطاع أن يستغل هذه النظرية اليونانية في تعبيره الفني هذا الاستغلال القيم، فإذا به يخرجها من دوائرها الفلسفية إلى دوائره هو الفنية، مستعينًا على ذلك بمجاميع من الأخطاء، وبما يمتاز به من مرونة في الجدل والحوار، والسفسطة وما يطوى في ذلك من ضروب تناقض وتقابل، واستمع إليه يعرض ابن عبد الوهاب على هذه الفكرة فيقول:
"وبعد فأنت -أبقاك الله- في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضًا، وأكون في حكمهم غليظًا، وأنا لك مع طول الباد راكبًا طو الظهر جالسًا، ولكن بينهم فيك -إذا قمت- اختلاف، وعليك لهم -إذا اضطجعت- مسائل، ومن غريب ما أعطيت، وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودًا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقًا مستفيض الحاضرة سواك، فأنت المدير، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب، فيا شعرًا جمع الأعاريض، ويا شخصًا جمع