للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم، والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا، ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك، وإذ قد سلموا لك بالرغم شطرًا، ومنعوك بالظلم شطرًا، فقد حصلت ما سلموا، وأنت على دعواك فيما لم يسلموا! ولعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زمامًا على الأعضاء، وعيارًا على الحواس.. ولم لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من تعبده الله بالصبر على خطأ الحس، وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك مارًا للمضلين، وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد، ومن القصير مثل أحمد ... والمربوع -بحمد الله- اعتدلت أجزاوه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر، فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار، وبحكم الظاهر عن الاعتلال! وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدًا ذم المربوع ولا أزرى عليه، ولا وقف عنده ولا شك فيه ... وبعد فما يحوجك إلى هذا، وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثيرًن ومن ينصرك منهم غير قليل، وقد رأيتك زمانًا تحتج بالنعمان بن المنذر وبضمرة.. وبرجال ناهيك بهم رجالًا، وبأعلام كفاك بهم أعلامًا، ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشجة والصلابة، فصغار كل شيء أشد ضررًا وأدق مدخلًا، وأظهر قوة وجلدًا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وقلت: إن كان الفضل في العدد فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومن الدعاميص والبعوض والرمل، والتراب وقطر السحاب".

وعلى هذا النحو يسوق الجاحظ حديثه في الرسالة متلاعبًا بفكرة الطول والقصر، وما ينبغي أن يكون من التوسط بين الطرفين، وإنه ليتسع بالحوار والجدل في ذلك اتساعًا شديدًا، فإذا هو يقف تارة في جانب القصر يحتج له، وتارة يقف في جانب الاعتدال، وقد يقف في جانب الطول، يدلي في كل

<<  <   >  >>