للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومجالس الخير مأهولة ونسيم الهواء طيبًا، وتراب الأرض عبقًا".

والحق أن الجاحظ بلغ من سخريته بابن عبد الوهاب ما لم يبلغه كاتب، ولا شتعر في اللغة العربية من سخريته بشخص من الأشخاص، والطريف أنه يصل إلى ذلك لا عن طريق السب، والشتم، والقذف، وإنما عن طريق ما يسوقه من تهكم وسخرية لاذعة بصاحبه، فإذا هو يحتكم معه إلى نظرية الأوساط اليونانية يستمد منها متناقضاته، كما يحتكم إلى قبحه، وما يضفيه عليه من هذا الحسن الحادث، ليستخرج كل ما يمكن من مفارقات فيه، وإنه يستعين على ذلك بضروب من الجدل والاحتجاج والحوار، كما يستعين عليه بضروب من السفسطة، والمغالظة، والمقابلة بين الحقائق بعضها وبعض، أو المقابلة بينه وبين أشياء أخرى على نحو ما يصنع به في هذه القطعة من المقابلة بينه، وبين القمر هذه المقابلة الساخرة الطريفة، التي يبعث فيها به ما شاء له هواه، وهو عبث يستخرجه من التناقض بين قبحه الحقيقي، وحسنه الذي ادعاه له، كما يستخرجه من قصره، وما ادعاه له من طول وتربيع، ومعنى ذلك أن الجاحظ بنى رسالته على فن المفارقة، هذا الفن الذي رشحت له نظرية الأوساط اليونانية عنده، وقد أخذ يضم إلى ذلك ضميمات أخرى من أسئلته الكثيرة، حتى تتم له سخريته من صاحبه، وغن هذه الأسئلة لتشغل الجزء الأكبر من رسالته، وانظر إليه يقول:

"يا قعيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا قوة الهيولا كيف أصبحت؟ حدثني كيف رأيت الطوفان، ومتى كان سيل العرم، ومذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الألسن؟ وما حبس غراب نوح؟ وكم لبثتم في السفينة؟ ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف؟ وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان؟.. وخبرني عن هرمس أهو إدريس؟ وعن أرميا أهو الخضر؟ وعن يحيى بن زكريا أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين أهو الإسكندر؟.. وخبرني عن قحطان ألعابر هو أم لإسماعيل؟ وعن قضاعة ألمعد بن عدنان أم لملك من حمير؟ وما القول في هاروت وماروت؟ وما عداوة بين الديك والغراب؟.. وخبرني عن بحار نيطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن

<<  <   >  >>