للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لما كان من براعته ومهارته في البيان والبلاغة، وقد كان يعرف ذلك من نفسه وفنه، فعبر عنه أجمل تعبير إذ يقول١:

وقد علم السلطان أن أمينه ... وكاتبه الكافي السديد الموفق

فيمناي يمناه ولفظي لفظه ... وعيني له عين بها الدهر يرمق

ولي فقر تضحى الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق

والحق أن الصابي كان علمًا من أعلام البلاغة في عصره، ومن يرجع إلى رسائله يجده يعنى عناية شديدة بانتخاب ألفاظه، وصقل عباراته وتنقيح سجعاته، وكان ما يزال في تسويد، وتبييض وتنميق حتى تخرج الرسالة مرصعة بكل ما يمكن من حلي ووشي، ولم يكن يأتي بحلي ووشي جديدين، بل كان يخضع في ذلك لما اصطلح عليه أصحاب مذهب التصنيع من السجع، والتصوير والتجنيس، وألوان البديع، وإن كان لم يغرق في استخدام هذه الألوان إغراق الصاحب، ولا إغراق ابن العميد، إذ كان عمه الأول التسجيع، والعناية به حتى يحصل من ذلك على طرف بديعة، وانظر إليه يقول من رسالة كتبها عن معز الدولة بعد ظفره ببعض أعدائه٢.

"وكان الغامط لإنعامنا، الجاحد لإحساننا، المتردي من ذروة طاعتنا، الهاوي في هوة معصيتنا، الخالع ربقة ذمتنا، النازع جنة٣ مشايعتنا ... ونحن نحمل أمره على ظاهره، ونظن غائبه مثل حاضره، وباطنه مثل عالنه، حتى جذبنا بضبعه٤ من المسقط المنحط، إلى المرفع المشتط، وانتهينا في الإناقة٥ بقدره، والإشارة بذكره، والتفخيم لأمره، والتقديم لقومه، إلى الغاية التي لا تسمح بها نفس باذل، ولا تسمو إليها همة آمل، فلما عز بعد الذلة، وكثر بعد القلة، وبعد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمت


١ رسائل الصابي "طبع بعبدا بلبنان" ١/ ٨.
٢ رسائل الصابي ١/ ٣٣.
٣ الجنة: ما استترت به، والربقة: العروة.
٤ جذب بضبعه: نعشه ونوه به.
٥ الإناقة: الارتفاع.

<<  <   >  >>