للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنت تراه يعني عناية شديجة بهذا الجانب الموسيقي من تصنيعه، فما يزال يقابل ويعادل، ويدقق في مقابلاته، ومعادلاته حتى تخرج عباراته متساوية في أصواتها تمام المساوة، وكأنه لا يؤلف نثرًا، وإنما يؤلف شعرًا، والواقع أن ابن العميد وتلاميذه من أمثال الصابي، وابن عباد رفعوا الحواجز التي كانت تفصل بين أسلوب الشعر، وأسلوب النثر، أو قل على الأقل: إنهم رفعوا كثيرًا من هذه الحواجز، فقد أحالوا نثرهم إلى موسيقى خالصة، فكله ألحان وأنغام، وما الفارق الذي يفرق بين مثل هذا السجع، والشعر؟ إنه يعتمد مثله على الموسيقى فكله حلى وتنميق وتصنيع، وهو من أجل ذلك لا يشبه النثر، الذي كنا نألفه قبل ذلك عند كتاب الدواوين في القرنين الثاني والثالث، وإنه يشبه الشعر، ففيه جميع شياته من موسيقى وبديع، ولكنه مع ذلك نثر؛ لأنه لا يجري في موسيقاه على أوزان الخليل، ومن ثم كنا لا نستطيع أن نسميه شعرًا، ونحن أيضًا لا نستطيع أن نسميه نثرًا خالصًا، وهو في الواقع شيء بين الشعر والنثر، ولذلك كان النقاد يسمونه شعرًا منثورًا، وتفنن ابن العميد، وتلاميذه بصور مختلفة في إنتاج هذ الضرب من الشعر المنثور، وذهبوا يحققون له كل ما يمكن من زخرف وتصنيع، ومهما يكن فإن الصابي كان علمًا من أعلام البيان في عصره، وقد أقر له معاصروه، ومن جاءوا بعدهم بذلك، يقول الثعالبي: "إنه أوحد العراق في البلاغة، ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية في البراعة والصناعة"١. ويقول ياقوت: إنهن "أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل"٢. ويقول ابن الأثير: "كيف أضع من الصابي، وعلم الكتابة قد رفعه، وهو إمام هذا الفن والواحد فيه"٣، ولما توفي رثاه الشريف الرضي بقصيدة طنانة مطلعها٤:

أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي

وما من ريب في أن هذا كله يدل على ما كان للصابي من منزلة رفيعة بين معاصريه، ومن جاءوا على إثرهم إذ كان أستاذًا ماهرًا في فن التصنيع لعصره، وكان وما يزال يتفنن في رسائله حتى يخرجها في صورة بديعة من الزخرف، والتنميق.


١ اليتيمة ٢/ ٢١٨.
٢ معجم الأدباء ٢/ ٢٠.
٣ المثل السائر لابن الأثير ص١٤٨.
٤ اليتيمة ٢/ ٢٨١.

<<  <   >  >>