للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الموسيقي الذي يريده الكاتب، وقد يأتي بالسجع الطويل، ولكنه يحدث فيه من المعادلات الداخلية ما يعود به قصيرًا، كقوله: "وليعلم أن الحر كريم الظفر إذا نال أقال، وأن العبد لئيم الظفر، إذا نال استطال"، فإن هاتين السجعتين طويلتان في الظاهر؛ ولكنك إذا تأملتهما وجدتهما تنحلان إلى أربع سجعات، ففيهما سجعتان داخليتان، وكان يلجأ إلى ذلك كثيرًا في رسائله، وهو لا يلجأ إلى السجع وحده، كما نرى في تلك الرسالة، بل نراه يلجأ إلى ألوان البديع وخاصة لون التصوير، ولون الطباق حتى يرصع سجعه ترصيعًا، وكان يعنى أيضًا بلون الجناس، ولكنها عناية أقل من عنايته بالطباق، ومن أمثلة جناسه قوله في مطلع إحدى رسائله: "وعد الشيخ يكتب على الجلمد، إذا كتب وعد غيره على الجمد، ولكن صاحب الحاجة سيئ النظر بالأيام، مريض الثقة بالأنام"١، وقوله في أخرى: "ورد على خبر وفاة فلان، فدارت بي الأرض حيرة، وأظلمت في عيني الدنيا حسرة، وملك الوله والوهل قلبي وساوس وفكرة، وتذكرت ما كان يجمعني، وأباه من سكرى الشباب، والشراب"٢، وعلى هذا النحو كان الخوارزمي يعتمد في تصنيعه على ما عرف عند ابن العميد، وتلامذته من سجع وبديع، وإنه ليحاول أن يبلغ من ذلك أوسع درجة ممكنة من الحلية، فهو يقصر سجعه، وهو يخلع عليه ضروبًا من الرشاقة بفضل ما يلجأ إليه من الصور والجناس والطباق، وكل ذلك ليجلب أبدع ما يمكن من طرف، وتحف في هذا الباب، وإن الإنسان ليحس عنده حقًا بأن التصنيع قد وصل إلى غايته من التجميل، فكل عبارة كأنها زخرف مستقل بما تحمل من وشي البديع وزينته، وإنه ليتطرف في ذلك تطرفًا ينتهي به إلى ظهور بعض سمات التصنع في كتابته.


١ رسائل الخوارزمي ص١٢، والجلمد: الصخر، والجمد: الثلج.
٢ نفس المصدر ص١٥.

<<  <   >  >>