للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الخوارزمي في رسائله، وإنا لنلمح فيه جانبًا من جوانب التصنع، وهل التصنع إلا الخروج عن الطرق الطبيعية في التعبير الفني، إما بمثل هذا التراكم للعبارات، أو بما قد يحدث من تعقيد في زخرف السجع والبديع، أو بما قد ينجم من اجتلاب ألفاظ العلوم ومصطلحاتها، ومهما يكن فنحن نقع عند الخوارزمي على هذه الحال الجديدة، التي أخذت تظهر في مذهب التصنيع، ونقصد هذه العبارات المرصوفة، التي يتراكم بعضها على بعض، والتي يحس الإنسان أنها لا تؤدي شيئًا أسجعا، وضروب من بديع، واستمع إليه يصف قصيدة بعث له بها أحد تلاميذه١:

"وصلت القصيدة الغراء، الزهراء، فكانت أرق من الماء، بل من الهواء، وألذ من الصهباء، وأسر من اللقاء بين الأحباء، ومن هجوم السراء، غب الضراب، وأعذب من مغازلة النساء، ومن مجالسة الندماء، ومن مساعدة القضاء، ومن معاقرة الشراب على الغناء، ومن استماع فوائد الحكماء، وخطب البلغاء، وقلائد الشعراء، ومن أخذ جوائز الأمراء، وتحصيل مراتب الخلفاء، فكانت معانيها أبدع من الوفاء، وأعز من السخاء، وأغرب من النصفة في الأصدقاء، ومن الأمانة في الشركاء، بل أغرب من المغرب العنقاء، وألفاظها أحسن من البدر في الظلماء، وأطيب من وصال الحسناء، ومن الشماتة بالأعداء".

أرأيت إلى هذه المبالغات، والتهويلات و"رص" العبارات؟ إنه الأسلوب الجديد، أسلوب الرسائل الشخصية عند الأستاذ الأديب أبي بكر الخوارزمي، الذي اشتهر بالبلاغة والبيان في عصره، لما كان يسوق في رسائله من مثل هذه العبارات المرصوصة، التي تدل على التصرف والمبالغة، كما تدل على ضرب من الإفراط في استخدام الجمل، والتراكيب المسجوعة، وأكبر الظن أنه كان يعمد إلى ذلك عمدًا، حتى يجمع لتلاميذه في رسائله جميع صور التعبير، التي يمكن أن يستخدموها في فكرة من الأفكار، وكأنه كان يحس أن مهمته ليست هي


١ رسائل الخوارزمي ص٣٧.

<<  <   >  >>