للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد حضرت داره، وقبلت جداره، وما بي حب الجدران، ولكن شغفًا بالقطان، ولا عشق الحيطان، ولكن شوقًا إلى السكان".

وأكبر الظن أنه استقرت في نفسك الآن صورة من تصنيع البديع، فهو يعتند في تصنيعه على السجع القصير، وإنه ليبعد في ذلك، فإذا سجعاته لا تتألف من عبارات، وإنما تتألف من ألفاظ وكلمات، فـ"قلمي" تتبعها "عن قدمي" و"رسولي" يليها "دون وصولي"، و"كتابي" تجيء في إثرها "قبل ركابي"، وما من شك في أنه بلغ من ذلك مبلغًا لم يصل إليه ابن العميد، ولا من تبعوه في مذهب التصنيع، وهو ضيف إلى ذلك كل ما يمكنه من ترصيع بالبديع، وكان يعتمد -في أغلب الأمر- على الجناس، بينما كان يعتمد الخوارزمي في الأكثر على الطباق، وهما يشتركان بعد ذلك في العناية بالتصوير، على أن البديع كان يهتم بلون لم يأبه له الخوارزمي، وهو "مراعاة النظير" بين ألفاظه وكلماته، وكان يبالغ في ذلك حتى يضم اللفق إلى لفقه، والشكل إلى شكله، كقوله في تهنئة بمولود: "حبذا الأصل وفرعه، وبورك الغيث وصوبه، وأينع الروض ونوره، وحبذا سماء أطلعت فرقدًا، وغالبة أبرزت أسدًا"١، فإنه حين ذكر الأصل، وفرغه استطرد إلى ذكر الغيث وصوبه، والروض ونوره أو زهره، والسماء وفرقدها، والغابة وأسدها، ومن ذلك قوله في إحدى رسائله:

"وردت من ذلك السلطان حضرته، التي هي كعبة المحتاج لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرام، لا مشعر الحرام، ومنى الضيف، لا منى الخيف وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة"٢، فإنه حين ذكر الكعبة، والحجاج ذكر المشعر الحرام، ومنى الخيف وقبلة الصلاة، وكل ذلك ليجانس، ويناظر بين ألفاظه وكلماته. على أن هناك ظاهرة تختص بها رسائل بديع الزمان، ولا توجد في رسائل الخوارزمي، وهي ظاهرة القصص، وهي أوسع من أن نمثل لها بأمثلة؛ لأنها تنتشر في جميع رسائله، ومهما يكن فقد كان بديع الزمان معجبًا بمذهب التصنيع، وكان يسعى دائمًا إلى تطبيقه في رسائله، وكتاباته وإنه ليغالي في هذا التطبيق، فإذا هو يحاول أن يقصر عبارات سجعه تقصيرًا شديدًا، كما يحاول أن يفرط في استخدام ألوان البديع إفراطًا بعيدًا.


١ رسائل بديع الزمان ص٥١٥.
٢ رسائل بديع الزمان ص١٥١.

<<  <   >  >>