للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بزينة الجناس، إذ أعنت نفسه هذا العنت في طلبه، فكل عبارة تخرج محملة به، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الإفراط في استخدام ألوان التصنيع، يقود الكاتب إلى فنون من التصنع، والتكلف الشديد، ولم يكن الخوارزمي، ولا غير الخوارزمي من أصحاب مذهب التصنيع، يضيقون على أنفسهم كل هذا الضيق، فإذا هم لا يصنعون عبارة، إلا ويوشونها بزخرف من زخارف البديع، ولكن ما لبديع الزمان، وللخوارزمي، وأصحابه؟ إنه يريد أن يتفوق عليهم، وهو لذلك يعمد إلى إعنات نفسه في صناعته، حتى يقع عمله من أهل عصره موقعًا غريبًا، وكأنما الإغراب أصبح هو البدع الجديد، ولذلك نراه يلجأ إلى مثل هذه الجناسات، التي نراها في القطعة السابقة، وانظر إليه يقول في إحدى رسائله مفضلًا العرب على العجم١:

"العرب أوفى وأوفر، وأوقى وأوقر، وأنكى وأنكر، وأعلى وأعلم، وأحلى وأحلم، وأقوى وأقوم، وأبلى وأبلغ، وأشجى وأشجع، وأسمى وأسمح، وأعطى وأعطف، وألطى وألطف، وأحصى وأحصف، وأنقى وآنق، ولا ينكر ذلك إلا وقح وتح، ولا يجحده إلا نغل نغر"٢.

أرأيت إلى هذه الكثرة من الجناس الناقص؟ أنها دليل آخر على ما نذهب إليه، من أن زخرف الجناس عند البديع أخذ يفقد بعض قيمته القديمة؛ لأن الكاتب يجعلنا نشرف على ضرب من التصنع في استخدامه، ومع أنه زخرف حقًا، ولكنا نحس أن طاقته القديمة فقدت بعض مميزاتها، وما كان يسمها من حسن وجمال، والحق أن التطرف في استخدام أدوات التصنع على هذا النحو، ينتهي صاحبه إلى الخروج إلى مذهب التصنع، والبديع لم يكن من أصحاب هذا المذهب، ولكنه كان مغاليًا في تصنيعه مغالاة جعلته يدنوم من ذوق أصحاب التصنع، الذين يصعبون في تعبيرهم كما سنرى فيما بعد، وقد كانوا


١ الرسائل ص٢٧٩.
٢ ألطى: أثقل على العدو. وتح: تافه، نغل: فاسد، نغر غاضب.

<<  <   >  >>