للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يلتمسون هذا التصعيب -من بعض الوجوه- في تعقيد زخرف التصنيع على نحو ما نرى الآن عند البديع، على أنه ينبغي أن نعرف أن البديع لم يكن يكثر من ذلك؛ لأنه لم يكن يتخذه مذهبًا، ولكنا على كل حال نجده عنده، وكأنه تعبير عن هذا التحول الذي أخذ يظهر قليلًا قليلًا في ميادين التصنيع، وهو تحول كان يراد به الانتقال إلى المذهب الجديد، مذهب التصنع.

وليس كل ما نجده عند البديع من الشعور بهذا التحول، هو استخدامه للجناس على هذا النحو، فنحن نجد عنده مظاهر أخرى، لعل من أهمها جنوحه للغريب في نثره، كأن الغريب غاية يسعى إليها الكاتب ليحقق ضربًا من الجمال في صناعته، وأكبر الظن أنه كان للجناس، واهتمامه به أثر في استخدامه لهذا الغريب، وبجانب هذه الظاهرة التي تدل على التصنع والتكلف؛ لأن استخدام الغريب لا يعد جمالا في ذاته، نجد عنده ظاهرة أخرى، وهي كثرة الأمثال في نثره، وأيضًا فقد كان يكثر من اقتباس القرآن الكريم في كتابته، ولا يقف البديع عند ذلك، بل نراه يكثر من تضمين العشر، وانظر إلى هذه الرسالة التي أرسل بها إلى الخوارزمي أول قدمه إلى نيسابور١:

"أنا لقرب الأستاذ -أطال الله بقاءه- "كما طرب النشوان مالت به الحمر"، ومن الارتياح للقائه، "كا انتفض العصفور بلله القطر"، ومن الامتزاج بولائه "كما التقت الصهباء والبارد العذب"، ومن الابتهاج بمرآه، "كما اهتز تحت البارح٢ الغصن الرطب"، فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، وكيف اهتزازه لضيف في ردة جمال، وجلدة حمال.

رث الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأغراب٣

وهو -أيده الله- ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه إلى مستقري، لأفضى إليه بسي، إن شاء الله تعالى".


١ رسائل بديع الزمان ص١٢٨.
٢ البارح: الريح الحارة في الصيف.
٣ منهج: بالي.

<<  <   >  >>