للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وواضح أن البديع استعان أربع مرات في أوائل رسالته بهذه الشطور من الشعر، التي وضعناها بين أقواس، وما من ريب في أنه جاء بها ليدل الخوارزمي على مهارته، وهذا هو نفسه ما يجعلنا نشعر بأن البديع كان يستظهر شارات من الصنع في عمله، وهي شارات تضطره إلى الجناس المسرف، أو الجناس المعقد، كما تضطره إلى استخدام الغريب، وأيضًا فإنها تضطره إلى هذا التضمين لشطور الشعر في كلامه.

والواقع أننا نحس في هذه الظواهر كلها أثرًا من التصنع، الذي أخذ القرن الرابع يعد لظهوره، ويهيئ لخروجه بما كان يصنعه البديع، والخوارزمي في آثارهما، وقد كان البديع أقرب من الخوارزمي إلى ذوق التصنع، ولعل ذلك ما جعله يميل إلى اللعب، والعبث في صناعته، فقد روى الثعالبي في يتميته أنه "كان يكتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخر سطر منه، ثم هلم جرًا إلى الأول"١، وقد روى بديع الزمان نفسه في رسائله صورًا كثيرة من هذا اللعب، إذ نراه يدل على الخوارزمي بأنه يستطيع أن يقترح عليه أربعمائة صنف في الترسل، ثم يستطرد، فيصف بعض هذه الأصناف، فيقول: إنه يستطيع أن يكتب كتابًا يقرأ منه جوابه، أو كتابًا يقرأ من آخر إلى أوله، أو كتابًا إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتابًا، فإن عكست سطوره مخالفة كان جوابًا، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل من راء يتقدم الكملة، أو دال ينفصل عنها، أو كتابا خاليا من الألف واللام، أو كتابا خاليا من الحروف العواطل، أو كتابا أول سطوره كلها ميم وآخرها جيم، أو كتابًا إذا قرئ معرجًا وسرد معرجا كان شعرًا، أو كتابًا إذا فسر على وجه كان مدحًا، وإذا فسر على وجه كان قدحًا٢.

ولعل من الطريف أن الخوارزمي حين سمع من بديع الزمان هذه الأصناف


١اليتيمة ٤/ ٢٤٠، ونجد في معجم الأدباء أديبًا معاصرًا للبديع يسمى الصخري، يحاول أن يقلده في هذا الجانب، انظر معجم الأدباء "طبع مصر" ٥/ ٢١.
٢ رسائل بديع الزمان ص٧٤.

<<  <   >  >>