للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأكف"١، والجف: "العدد الكثير من الناس، ومثله قوله: "الإكراه مرة بالمرة، ومرة بالدرة"٢، والمرة هنا العقل، وقد استخدمها لغرض الجناس بينها وبين الدرة، وعلى هذا النحو كانت تضطره المجانسة أحيانًا إلا ما يركب من لفظه الغريب، وليس ذلك كل ما يلاحظ في جناسه، فإننا نلاحظ عليه أيضًا الإفراط فيه، حتى ليعدل كثيرًا إلى الجناس الناقص من جهة، كما يعدل إلى الجناس المعكوس من جهة أخرى، على نحو ما نرى في مثل قوله: "ولكني أبو العجائب عاينتها وعانيتها، وأم الكبائر قايستها، وقاسيته"٣، فقد قلب عاينتها، فخرجت له عانيتها، وقلب قايستها فخرجت له قاسيتها، ومن ذلك قوله: "بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلًا نجيبة، وقائدًا جنيبة"٤، فقد قلب نجيبة، فخرجت له جنيبة، ومن ذلك قوله: "أعاني الفقر، وأماني القفر"٥، فقد قلب الفقر، فخرجت له القفر، ومثل ذلك أيضًا قوله: "يزهى بحليته، ويباهي بحليته"٦، فقد قلب حليته فخرجت له لحيته.

وما من ريب في أن هذه الجوانب كلها عند البديع، هي التي تجعلنا نزعم أنه كان مقدمة من مقدمات مذهب التصنع، وليس معنى ذلك أنه يخرج عن مذهب التصنيع وإطاره، بل هو أحد أساتذته في عصره، حتى لتشبه المقامة من مقاماته واجهة أحد المساجد المزخرفة لعهده، لكثرة ما شغل فيه بالتنميق والتصنيع والترصيع، وغاية ما في الأمر أنه وجد في هذه المرحلة التي أخذت تتحول فيها صناعة النصر العربي من مذهب التصنيع إلى مذهب التصنع، فتسربت شيات، وسمات من ذلك إلى عمله، وإنها لشيات وسمات تدل على أننا أصبحنا على وشك التلاقي بمذهب التصنع، وكبار أنصاره وأصحابه.


١ المقامات ص١٠٦.
٢ مقامات بديع الزمان ص١٢٩. والدرة: العصا.
٣ نفس المصدر ص٢٦.
٤ نفس المصدر ص٤٣.
٥ نفس المصدر ص٥٣. وأماني: أداري من فزعي.
٦ نفس المصدر ص١٩٣.

<<  <   >  >>