الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمن غير مسموعة"، ونحن لا نلوم البديع على اهتمامه بالاستعارات؛ لأنها كانت إحدى زخارف مذهب التصنيع، ولكن نلومه على اهتمامه بالكلمات المعتاصة الغريبة غير المسموعة، فإن إغراب الكلمات من حيث هو لا يمكن أن تعتبر زخرفًا، أو تجميلًا وتصنيعًا، بل إنه يعتبر عيبًا، وآفة حين يحتكم إليه الكاتب في فنه، وما الجمال الذي يستهويه فيه؟ إنه يخلو من كل جمال، وإنه لدليل على أن وسائل الأداء في النثر أخذت تتعقد منذ البديع، إذ يجنح الكاتب إلى وسائل لا تتصل بالفن، وإنما تتصل بالإغراب من حيث هو، ومن أجل ذلك كنا نزعن أن بديع الزمان -على الرغم من أنه علم من أعلام فن التصنيع- أخذ التصنع يتسرب إلى آثاره، ونماذجه في رسائله ومقاماته، وهل أدل على ذلك من أنه كان يتخذ اللفظ الغريب كطرفة فنية، يعيب بها الجاحظ وغيره من سابقيه، وحقًا إنه لم يطبق ذلك على كل مقاماته، ولا علي كل جوانبها، ولكنه على كل حال عني به فيها، كما عني به في رسائله.
وبجانب عنايته باللفظ الغريب في المقامات، نجده يعنى بما سبق أن عرضنا له من كثرة تضمين الشعر، وكثرة الاقتباس من القرآن الكريم، وحشد بعض الأمثال. وكل هذه المظاهر سنراه واضحة عند أصحاب مذهب التصنع، وأيضًا فإنه كان يعنى في المقامات بتعقيد أداة التصنيع، التي كان يعجب بها، وهي أداة الجناس، وربما كانت أحد الأسباب التي جعلته يعنى بالغريب فإن المعجم العادي، قد لا يعطيه الكلمة التي يريدها، فيبحث عنها في المعجم الغريب، وحينئذ لا يهمه إبهامها، ولا اعتياصها كقوله: "أميس ميس الرجلة، على شاطئ الدجلة"١، فإن مجانسته لكلمة الدجلة هي التي اضطرته إلى كلمة الرجلة، وهي جمع رجل، وهو جمع شاذ، لكنه عدل إليه من أجل جناسه، ومثل ذلك أيضًا قوله: "فأخذه الجف، وملكته