للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في فروة الموت، قد طلع من غابه، منتفخًا في إهابه، كاشرًا عن أنيابه، بطرف قد ملئ صلفا، وأنف قد حشي وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرعب، وقلنا: خطب مليم، وحادث مهم، وتبادر إليه من سرعان الرفقة فتى:

أخضر الجلدة في بيت العرب ... يملأ الدلوا إلى عقد الكرب١

بقلب ساقه قدر، وسيف كله أثر، وملكته سوره الأسد، فخانته أرض قدمه، حتى سقط ليده وفمه، وتجاوز الأسد مصرعه، إلى من كان معه، ودعا الحين٢ أخاه، بمثل ما دعاه، فصار إليه، وعقل الرعب يديه، فأخذ أرضه، وافترش الليث صدره، ولكني رميته بعمامتي، وشغلت فمه، حتى حقنت دمه، وقام الفتى فوجأ٣ بطنه، حتى هلك الفتى من خوفه، والأسد للوجأة في جوفه".

وأنت ترى أن بديع الزمان يعني عناية واضحة برصف أسجاعه مضيفًا عليها ألوانا من البديع، وخاصة من الجناس والتصوير، إذ كان يهتم بما اهتمامًا واسعًا، كما كان يهتم بشيء آخر، وهو كثيرة حشده للغريب في مقاماته على نحو ما نرى في المقامة النهدية، وارجع إلى المقامة الحمدانية، فستراه هناك يصف فرسًا، فيعنت نفسه في الإتيان باللفظ الغريب، حتى إذ استوفى من ذلك ما يريد، عاد فشرح لفظه كأنه أستاذ من أساتذة اللغة، لا أديب ينشئ قصة، وهذا نفسه احد الأدلة على أنه لم يرد بكثير من مقاماته إلى غاية قصصية خالصة، إنما أراد بها إلى غاية تعليمية، وقد أدته هذه الغاية إلى أن يكثر من الأساليب المصنعة، كما أدته إلى أن يكثر من اللفظ الغريب، وقد تلوم من أجلهما الجاحظ، وحل عليه حملة شعواء في مقاماة سماها المقامة الجاحظية، وفيها يقول عنه: إنه "قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان


١ أخضر هنا: أسمر. والسمرة هي اللون الخاص بالعرب. الكرب: قطعة حبل تربط في الخشبتين المعترضتين في فم الدلو: والشطر مثل يضرب للمغلوب في أي شيء.
٢ الحين: الموت.
٣ رجأ بطنه: شقها.

<<  <   >  >>