للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بمثل هجري وصدي، وديعة الدهور، وخبيئة جيب السرور، وما زالت تتوارثها الأخيار، ويأخذ منها الليل والنهار، حتى لم يبق إلا أرج وشعاع، ووهج لذاع. ريحانة النفس وضرة الشمس، فتاة البرق١، عجوز الملق، كاللهب في العروق، وكبرد النسيم في الحلوق، مصباح الفكر، وترياق سم الدهر، مثلها عزر الميت، فانشر ودووي الأكمه فأبصر".

ألا تحس بأن بديع الزمان يحاول هنا أن يجمع أكثر ما يمكنه من أوصاف الخمر، ليسلكها في عقد مقاماته، وهو ينظر إلى كل عبارة، كأنها جوهرة يريد أن يضعها في هذا العقد، حتى تتلألأ بقوة أوسع من قوة جارتها، وما يزال يحتال على هذه الجواهر، يضمها بعضها إلى بعض، حتى ينال استحسان سامعيه في نيسابور موطن الخوارزمي، وموطن فصاحته، وما اشتهر به من بلاغته، وكأنه يريد أن يصرف تلاميذه عنه بما يروعهم به من هذه الأساليب المصنعة، التي تتراكم في مقاماته تراكمًا، وانظر إليه يقول في المقامة الأسدية:

"اتفقت لي حاجة بحمص، فشحذت إليها الحرص، في صحبة أفراد كنجوم الليل، أحلاس٢ لظهور الخيل، وأخذنا الطريق ننهب مسافته، ونستأصل شأفته، ولم نزل نفري٣ أسنمة النجاد، بتلك الجياد، حتى صرن كالعصي، ورجعن كالقسي وتاح٤ لنا واد في سفح جبل، ذي ألاء وأثل٥، كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر، ومالت الهاجرة بنا إليها، ونزلنا نغور ونغور٦، وربطنا الأفراس بالأمراس٧، وملنا مع النعاس، فما راعنا إلا صهيل الخيل، ونظرت إلى فرسي، وقد أرهف أذنيه، وطمح بعينيه، يجذ قوى الحبل بمشافره، ويخد خد الأرض بحوافره، ثم اضطربت الخيل فتقطعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار لك واحد منها إلى سلاحه، فإذا السبع


١ البرق: التزيين: يريد أن الخمر كالفتاة في زيتها، ثم هي كالعجوز في تملقها وتوددها.
٢ أحلاس: جمع حس، وهو الملازم.
٣ نفري: نقطع، والنجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض.
٤ تاح: عرض.
٥ ألاء وأثل: من أشجار البادية.
٦ نغور: تهبط في الأودية، نغور: ننام.
٧ الأمراس: الحبال.

<<  <   >  >>