للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الزمان في مقاماته، وبين أهل الكدية في زمنه، ومهما يكن فقد استطاع بديع الزمان أن ينفذ من نمو هذه الطائفة في عصره، وما اشتهرت به من حيلها إلى صنع مقاماته، ويسوق البديع هذه المقامات في شكل قصص درامية صغيرة، يمكن أن تعتبر المقامات كلها قصة واحدة، تعبر عن أطوار مستقلة من حياة بطلها أبي الفتح الإسكندري، أو قل: إنها تعبر عن حوادث مستقلة من أيامه.

صيغت في أسلوب قصصي يشيع فيه الحوار، وفيها نرى أبا الفتح يحتال على الناس بطرق مختلفة من بلاغته، ليبتز أموالهم، وفي أغلب أمره يلتقي به عيسى بن هشام، فيعجب بفصاحته، ويكشف اللثام عن وجهه، وفي كل مرة لا يخطئه، فهو دائمًا أبو الفتح الإسكندري! ... وما من ريب في أن هذه الصورة تخرج في كثير من جوانبها بالمقامات عن أسلوب القصص المشوق إلى أسلوب السرد، وإن كنا لا نعدم فيها القصص الدرامية الطريفة.

وكان هم بديع الزمان الأول، أن يجمع في كل مقامة من مقاماته طائفة من الأساليب البلاغية المصنعة، التي تعتمد على السجع والبديع، وإنه ليسرف في تجميل كل مقامة بأوسع طاقة ممكنة من الزخرف والزينة والتنميق، ومن ثم انصرف عن الموضوع إلى الأسلوب، وذهب يجمله ويرصعه فنونًا من التجميل والترصيع، فالترصيع والتجميل هما غايته من عمله، حتى تستوي له طرف إنشائية بليغة تروع معاصريه، وقد كان القدماء أنفسهم يعرفون ذلك، يقول ابن الطقطقي: "إن المقامات لا يستفاد منها سوى التمرن على الإنشاء، والوقوف على مذاهب النظم والنثر"١، وإن من يتابع البديع في مقاماته يحس حقًا أنه ألفها لغرض التمرن على الكتابة والإنشاء، فإنه يعني دائمًا بالوصف، ولا يصف شيئًا إلا راكم فيه العبارات "ورصها رصًا"، ليختار منها الكاتب ما يريد، وانظر إليه يصف الخمر على لسان ربة حانة فيقول٢:

"هذه خمر كأنما اعتصرها من خدي، أجداد جدي، وسربلوها من القار


١ الفخري في الآداب السلطانية "طبع المطبعة الرحمانية" ص١٠.
٢ انظر في ذلك المقامة الخمرية.

<<  <   >  >>