وهذا التمييز الذي يحسب الخير شيرًا؟ وما هذا الرأي الذي يزين له قبح العقوق، ويمقت إليه رعاية الحقوق؟ وما هذا الإعراض الذي صار ضربة لازب، والنيسان الذي أنساه كل واجب؟ أين الطبع الذي هو للصدود صدود، وللتألف ألوف ودود؟ وأين الخلق الذي هو في وجه الدنيا البشاشة والبشر، وفي مبسمها الثنايا الغر؟ وأين الحياء الذي يجلي بمحاسنه الكرم، وتحلى بمحاسنه الشيم؟ كيف يزهد فيمن ملك عنان الدهر فهو طوع قياده، وتبع مراده، ينظر أمره ليمتثل، ويرقب نهيه فيعتزل. وكيف يعرض عمن تعرض رفاهة العيش بإعراضه، وتنقبض الأرزاق بانقباضه، ومن أضاء نجم الإقبال إذا أقبل، وأهل هلال الحد إذا تهلل؟ وكيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا، ويرى تحته السماء العليا، قد ركب عنق الفلك، واستوى على ذات الحبك، فتبرجت له البروج، وتكوكبت لعبادته الكواكب، واستجارت بعزته المجرة، وأثرت بمآثره أوضاح الثريا؟ بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء، وجستم الهباء، وفصل تراكيب السماء، وألف بين الناء والماء، وأكمد ضياء الشمس والقمر، وكفاهما عناء السير والسفر، وسد مناخر الرياح الزعازع، وطبق أجفان البروق اللوامع، وقطع ألسنة الرعود بسيف الوعيد، ونظم صوب الغمام نظم الفريد، ورفع عن الأرض سطورة الزلازل، وقضى بما يراه على القضاء النازل، وعرض الشيطان بمعرض الإنسان، وكحل الحور العين بصور الغيلان، وأنبت العشب على البحار، وألبس الليل ضوء النهار؟ ولم لا يعلم أن مهاجرة من هذه قدرته ضلال، ومباينة من هذه صفته خبال، وأن من له هذه المعجزات يشترى رضاه بالنفس والحياة، ومن أتى بهذه الآيات يبتغي هواه بالصوم والصلاة؟ ...
وليس إلحاحي على سيدي مستعيدًا وصاله، ومستصلحًا خصاله، وعدى عليه هذه العجائب، ووثوبي لاستمالة من جانب إلى جانب؛ لأني كنت ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خلته، أو يؤثل حالًا عند من ينحت أثلته، أو يقبل بوجهه على من لا يجعله قبلته، فإنى لو عملت أن الأرض لا تسف تراب قدمي لجنبتها جنبي، وأن السماء لا تتوق إلى تقبيل