للميلاد، إذ نرى شعراء الإسكندرية يحولون نماذجهم إلى مجاميع من التعقيدات، وكذلك كان الشأن عند العرب في أواخر القرن الرابع للهجرة، إذ نراهم ينالون قبل هذا التاريخ كل ما كانوا يصبون إليه من ترف عقلي وحضاري، حتى إذا بشموا رأيناهم يتحولون إلى تعقيدات مختلفة في حياتهم من جهة، وفي أدبهم من جهة أخرى، ولعل من أروع ما يصور ذلك الجانب في حياتهم ما يروى عن الوزير المهلبي، المتوفى عام ٣٥٢هـ، من أنه كان "إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز، واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام في الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلًا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"١، وحقًا إن الوزير المهلبي سبق ظهور مذهب التصنع في النثر بنحو نصف قرن، ولكنه على كل حال يرمز إلى لهذا الميل الجديد في الحضارة العربية، وأنها أخذت تتعقد على نحو تعقيد المهلبي لوسيلة طعامه، فإذا هو لا يأكل بمعلقة واحدة، وإنما يأكل بملاعق مختلفة!
وهذا التعقيد في الحضارة العربية أخذ يتسرب إلى الكتابة الفنية أول الأمر في شيء من الاستحياء، فإن الخوارزمي يفزع إلى مبالغاته، وتهويلاته كما يفزع إلى الإفراط في استخدام ألوان البديع، علة يشفي غلة من غلل التعقيد.
ثم يأتي من بعده بديع الزمان، فيتقدم خطوات في هذه الطريق، فإذا هو يعقد بعض وسائل التصنيع، وخاصة وسيلة الجناس، وإنه ليلجأ إلى وسيلة جديدة غير مفهومة هي اللفظ الغريب، وهو لا يكتفي بذلك، بل نراه يعمد إلى ما سماه الخوارزمي شعبذة، إذ كان يحاول أن يكتب كتابًا يقرأ من آخره إلى أوله، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل مثل الراء، أو كتابًا خاليًا من الألف واللام، أو خاليًا من الحروف العواطل، أو أول سطوره كله ميم وآخرها جيم، إلى غير ذلك من ألاعيب كان يسوقها ليدل على مهارته، ومع ذلك فقد كان