للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بديع الزمان من أصحاب مذهب التصنيع، إذ كان يعمد إلى هذه الجوانب في القلة، ولم يكن يعممها في آثاره، بل هي تظهر في حين إلى حين، دالة على أننا أصبحنا داخل مرحلة التحول إلى المذهب الجديد، مذهب التصنع والتعقيد.

ونحن لا نترك البديع إلى قابوس، حتى نجده يخطو خطوة جديدة نحو مذهب التصنع، إذ نراه يعمد إلى التعقيد في كل ما يكتب، وقد اختار زخرف الجناس ليحدث فيه كل ما يستطيعه من هذا التعقيد، وما يطوي فيه من تصعيب، كان التصعيب شيء يقصد لذاته، وهذا هو الذي دفعنا إلى أن نسلكه في أصحاب التصنع، إذ كان يعنى في فنه بالتعقيد عناية جعلت هذا الفن أشبه ما يكون بالتمارين الهندسية، وإنها لتمارين يجد فيها كل ما يريد من متعة بالفن، فالفن عنده ليس إلا التصعيب والتعقيد، وقد أخذ هذا الذوق ينتشر في الفن منذ قابوس ورسائله، بل نحن نغلو إذا نسبنا إلى قابوس ابتكاره، فقد كان شعورًا عامًا في الحضارة العربية نفسها والحياة الفنية معها، وآية ذلك أننا لا نكاد نعثر على مجموعة من رسائل كاتب في هذا العصر، حتى نجد بها شيات من هذا التصنع، وقد استمر ذلك دأب الكتاب، حتى نفذ من بينهم بديع الزمان إلى كثير من سمات المذهب، ثم جاء قابوس فأضاف سمات أخرى، كما أضاف غيرهما من الكتاب بعض شارات وشيات، ومن يرجع إلى اليتيمة يجد صناعة الألغاز تدخل في النثر الكتابي١، وهي ضرب من ضروب التعقيد؛ كما يجد أداءة الجناس التي أخذت تتعقد تخصص له بعض الكتب، تتحدث عن أنواعها وأجناسها٢، وأيضًا فإنهم كانوا يكثرون من ترصيع رسائلهم بالشعر، والأمثال والغريب؛ وكل ذلك كان دليلًا على وشك جموج الحياة الفنية في النثر العربي، وأنه أصبح لا مفر من أن يصل إلى حال غريبة من التعقيد.

ونحن لا نترك القرن الرابع قرن بديع الزمان، وقابوس وأضرابهما إلى القرن الخامس، حتى نجد هذا المذهب يعم في جميع كتابات الأدباء، فقد أصبح


١ اليتيمة ٤/ ٣٥٣.
٢ اليتيمة ٤/ ٣٩٦.

<<  <   >  >>