للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنت ترى هذه الرسالة، وقد غلا فيها أبو العلاء في استخدام اللفظ الغريب، وكان يفزع دائمًا إلى ذلك في آثاره، ورسائله، كأن اللفظ الغريب من حيث هو غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في نماذجه، وأعماله، وإن أبا العلاء ليبلغ من ذلك في بعض آثاره أن تصبح، وكأنها متن من المتون اللغوية، فهي تجمع كل ما يستطيعه من ألفاظ لغوية غريبة مغرقة في الإغراب، وإنه ليطلب أبعد الكلمات إغرابًا مما عثر عليه في الشعر القديم؛ وليس يهمه بعد ذلك أن تكون الكلمة سجلت في المعاجم اللغوية، بل إن عدم تسجيلها يدفعه إلى أن يسجلها هو في أعماله، ومن هناك كانت قراءة هذه الأعمال من أصعب الأشياء، وخاصة، حين تريد أن تقف وقوفًا دقيقًا على معانيه، ولعله من أجل ذلك عني بشرح آثاره، وتفسيرها من لزوميات وغير لزوميات في الشعر، ومن رسالة الغفران إلى الفصول والغايات في النثر، وإذا فالإغراب هو العقدة الأولى في آثار أبي العلاء. وحقًا إنه تتخذ السجع والبديع في عمله عن نحو ما مر بنا عند ابن العميد وتلامذته، ولكنه يعقدهما جميعًا لا بالتزام حرفين، أو أكثر في أواخر سجعاته، فهذا شيء محتمل، إنما بهذا اللفظ الغريب.

أرأيت إلى ما أصاب النثر العربي عند أبي العلاء، لقد أصبح يقصد به إحداث طرائف لغوية، وهي طرائف لا تعتمد على زخرف ولا على تنميق، فهذا عهد مضى وانقضى، إنما تعتمد على الإبهام والغموض، أو بعبارة أخرى على الإغراب؛ وهذه العقد اللغوية التي يذيعها أبو العلاء في أعماله، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعتمد على أصول فن التصنيع، بل لقد كان يعتمد عليها كما نرى في هذه الرسالة، ولكنا نحس أن تلك الأصول فارقت صورتها القديمة، إذا تحولت إلى صورة جديدة من الإبعاد في اللفظ الغريب، وما من ريب في أن هذا كان تحولًا من مذهب التصنيع، إلى مذهب جديد هو مذهب التصنع، إذ نرى الكاتب يتعمد أن يخرج أساليبه موشاة بطرائف جديدة لا صلة بينها، وبين التنميق والتصنيع، وإنها لطرائف يؤصلها أبو العلاء على استخدام أكثر ما يمكن من الألفاظ الغريبة المهجورة، كما يؤصلها على اللف والدوران وبسط الأساليب,

<<  <   >  >>