فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التصيغير، ردت المستحلس إلى حليس، وقابوس إلى قبيس، لأمد صوتي بتلك الآلاء؛ مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن سيدنا الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر، إن كاتبت فلا ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلا طالب ثواب، حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحًا، والمنسرح خفيفًا سريحًا، وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن "معروف"، قبض العروض من أول وزن".
وإن الإنسان ليذهل حين يقرأ هذه الصورة من الصياغة عند أبي العلاء، كأنهما ضاقت جميع صور التعبير عن أن تؤدي المعاني التي تجول في نفسه، فهو يبحث عنها في طوايا علوم النحو، والتجويد والقراءات، والعروض على هذا النمط من التعقيد الجديد، الذي يضيفه إلى آثاره، وينثره في جميع أطرافها نثرًا، وقد كنا نفهم -إلى حد ما- أن يتصنع أبو العلاء في أعماله للفظ الغريب، فاللفظ الغريب يدخل على كل حال في نطاق التعبير الأدبي، أما الآن فقد خرج عن هذا النطاق إلى نطاق جديد لا جمال فيه، ولا فن إلا إذا كنا من ذوق أبي العلاء، وكنا نريد أن نتعب الناس في فهم ما نقول، ولن نتعبهم هذه المرة عن طريق كثرة رجوعهم إلى المعاجم اللغوية، بل سنتعبهم عن طريق رجوعهم إلى المصطلحات الخاصة بالعلوم العربية، كي يفهموا ما يقرءون.
وما للقراء، وهذا العناء كله؟ إنهم يريدون أن يصلوا إلى المعاني التي يقرءونها في صورة سريعة، أو على الأقل لا تبعد بهم كل هذا البعد، ولا تغرب بهم كل هذا الإغراب، ولكن أبا العلاء لا يفكر في شيء من ذلك كله، فقد جاء في مرحلة جديدة من مراحل النثر العربي، وهي مرحلة كانت تفترق افتراقًا شديدًا مما سبقها من مراحل، إذ كان أصحابها ما يزالون يصعبون نثرهم ضروبًا من التصعيب، وقد ذهب أبو العلاء في آثاره يعرض عليهم بعض ما استطاع أن يصل إليه من هذه الضروب، كي يفظر بتفوقه عليهم، واستعلاء آثاره على آثارهم، وأنه ليهدف إلى ذلك عن طريق اللفظ الغريب من جهة، وحشد المصطلحات العلمية من جهة أخرى.