للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غير أن الأمور لم تلبث أن فسدت بينهما، ففر ابن زيدون على وجهه إلى إشبيلية عام ٤٤١ ١، فلقيه أميرها المعتضد لقاء حسنًا، واصطنعه لنفسه، كما اصطنعه ابنه المعتمد من بعده، واستطاع المعتمد بفضل مشورته أن يستولي على قرطبة، وما زال يرعاه خير رعاية، حتى إذا كان عام ٤٦٣ أرسله إلى إشبيلية في مهمة إلا أن القدر عاجله، ويقولون: إن أهل قرطبة حزنوا لوفاته حزنًا شديدًا.

وهذا كله يرينا أن حياة ابن زيدون، كانت مليئة بمتاعب ومصاعب جمة، ومع ذلك فهو يوضع على رأس شعراء، وكتاب عصر ملوك الطوائف، يقول صاحب الذخيرة فيه: "كان أبو الوليد زيدون غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من جر الأيام جرًا، وفات الأنام طرًا، وصرف السلطان نفعًا وضرًا، ووسع البيان نظمًا ونثرًا، إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه، وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه، وحظ من النثر غريب المباني شعري الألفاظ والمعاني"٢، ويقول أيضًا: "فأما سعة ذرعه وتدفق طبعه، وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه، فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصر ولا يعد"٣، ولعل أطرف ما ترك ابن زيدون من آثاره الكتابية، هو الرسالة الجدية ثم الرسالة الهزلية؛ أما الرسالة الجدية التي كتبها في الاستعطاف، فهي تبدأ على هذا النمط:

"يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به، وامتدادي منه، أبقاك الله ماضي حد العزم واري زند الأمل، ثابت عهد النعمة، إن سلبتني -أعزك الله- لباس نعمائك، وعطلتني من حلي إيناسك، وأظمأتني إلى برود إسعافك، ونفضت بي كف حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك: بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك٤


١ الذخيرة ١/ ٢٩١، وفيات الأعيان ١/ ٤٣.
٢ الذخيرة ١/ ٢٨٩.
٣ الذخيرة ١/ ٢٩٢.
٤ يشير إلى قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم

<<  <   >  >>