للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأحس الجماد استحمادي إليك، فلا غرو قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه١، وتكون منية المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص٢:

كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد

وإني لأتجلد وأرى الشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع٣، فأقول:

هل أنا إلا يد أدماها سوارها٤، وجبين عضه إكليله ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفه، وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول٥:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقس أحيانًا على من يرحم

هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي٦، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع٧، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر -غير ضنين- غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضًا أملؤها٨، وأثقل السحائب مشيًا أحفلها، وأنفع الحيا٩ ما صادف جدبًا، وألذ الشراب ما أصاب غليلًا، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب".

وأكبر الظن أن خصائص ابن زيدون اتضحت لنا الآن، فهو يعني عناية شديدة بحل الشعر في كلامه، كما يعني بالأمثال وحشدها، حتى لتغدو


١ هذ المثل مقتبس من بيت لعدي بن زيد العبادي.
٢ مثل قديم. والحين: الموت.
٣ مأخوذ من قول أبي ذؤيب:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
٤ مأخوذ من قول المتنبي:
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار.
٥ هو أبو تمام:
٦ مأخوذ من قول بعضهم:
وما هي إلا غمرة ثم تنجلي ... سريعًا وإلا نبوة تتصرم.
٧ مثل قديم. وتقشع: تقلع.
٨ مثل أيضا.
٩ الحيا: المطر. أحفلها: أملؤها.

<<  <   >  >>