للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رسالته في حاجة إلى الشرح؛ لأن كثيرًا من عباراتها أمثال مرموزة، وأبيات منثورة وشطور من الشعر مرصوفة، وهذا نفسه هو الذي يجعلنا نقول: إن ذوق ابن زيدون في نثره كان قريبًا من ذوق أصحاب التصنع في المشرق، وحقًا هو لم يستخدم البديع، ولا ما يتصل به من تعقيد بعض زخارفه، ولكنه استخدم لغة بهمة بعض الشيء، وإذا استمررنا معه في الرسالة، وجدناه يلجأ إلى شيء أكثر صعوبة، وهو ذكر كثير من وقائع القرآن الكر يم، وحوادث الإسلام الحنيف. وراع هذا الجانب في الرسالة القدماء؛ لأنهم عثروا به على مادة غنية للشرح والتفسير، واستمع إليه يصور لابن جهور، أنه لم يرتكب جرمًا كبيرًا، فيستهدف لما مضى من جنايات وأحدث في الديانات، وعلى هذا النحو:

"قد بلغ السيل الزبى١، ونالني ما حسبي به وكفى، وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم، فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا، فقلت: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، وأمرت ببناء الصرح لعلي طلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابتلي به جيوش طالوت، وقدت الفيل لأبرهة، وعاهدت قريشا على ما في الصحيفة، وتأولت في بيعة العقبة، ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة، وجئت بالإفك على عائشة الصديقية، وأنفت من إمارة أسامة، وزعمت أن بيعة أبي بكر كانت فلتة".

وترك ابن زيدون هنا السجع؛ لأنه لا يستقيم، وما يريد أن يروى من هذه الأحداث، وهي أحداث لا يفهمها إلا من قرأ سير الأنبياء، والسيرة النبوية خاصة، ولا بد له بعد ذلك أن يقرأ شيئًا عن حياة المسلمين بعد الإسلام، ونحن نراه في الرسالة ينتقل بعد ذلك إلى تملق ابن جهور مع شيء من الزهور والخيلاء، وقد


١ مثل يضرب حين يتفاقم الأمر: الزبى: جمع زبية. وهي الحفرة في المكان المرتفع.

<<  <   >  >>