امتد به نفسه طويلًا، فأكثر من الحكم والأمثال، كما أكثر من تضمين الشعر وجله في نثره، وكذلك أكثر من اقتباس آي الذكر الحكيم، وما من ريب في أن هذه صورة أخرى من صور التصنع، وهي صورة لا تبلغ ما بلغه المذهب في المشرق من تعقيد عند أبي العلاء وأصحابه، ولكنها على كل حال تأخذ من التصنع بأطراف قوية، وتذهب هذا المذهب نفسه الرسالة الهزلية، إذ نراه يسخر من ابن عبدوس متطرقًا في أثناء سخريته إلى ذلك كثير من الأمثال، وحوادث التاريخ وأعلامه، واستطاع في أثناء ذلك أن ينفذ إلى التأثر بالجاحظ في رسالة التربيع والتدوير، وانظر إليه يقول في بعض جوانبها عن السيدة، التي أرسلها ابن عبدوس: إنها زعمت لولادة:
"أن بطليموس سوى الاضطرلاب بتدبيرك، وصورة الكرة على تقديرك، وأبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك، وكلاهما قلدك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركب الأعضاء، واستشارك في الدواء والداء، وأنك نهجت لأبي معشر طريق القضاء، وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء، وأعطيت النظام أصلًا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندي رسمًا استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنغام توليدك وابتداعك، وأن عبد الحميد بن يحيى باري أقلامك، وسهل بن هارون مدون كلامك، وعمرو بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك الذي أقام البراهين، ووضع القوانين، وحد الماهية، وبين الكيفية والكمية".
والحق أنك مهما قرأت في آثار الأندلسيين، فستراهم يرجعون دائمًا إلى أصول مشرقية يقلدونها، ويستمدون منها، إما في تنسيق الموضوع على نحو ما استفاد ابن زيدون من الجاحظ في رسالته الهزلية، وإما في العناصر التي يؤلفون منها نماذجهم على نحو ما رأيناه في الرسالة الجدية، إذ ذهب يستعين فيها بشعر لأبي ذؤيب، والمتنبي وغيرهما ينثره في أثنائها، وكما ذهب يستعين بأمثال قديمة. وهو ضيف إلى ذلك آيات من القرآن الكريم ألفاظًا يجمل بها عمله، وأيضًا فإنه يتصنع لذكر كثير من حوادث الديانات، وخاصة حوادث الإسلام كما يتصنع لكثير من أعلام التاريخ، وهذا هو الجديد الذي كان يأتي به ابن زيدون لبيان تفوقه وبراعته، وهي أشياء كلها ترد إلى المشرق، وليس للأندلس فيها إلا فضل النموذج، الذي يجمعها بعضها إلى بعض، فإذا هي تستوي في صورة أدبية خاصة، ومع ذلك فليس من شك في أن ابن زيدون يوضع في الطبقة الأولى من كتاب الأندلس، وأدبائها على مر العصور!