السجع المركب ليدل على مبلغ تفننه وجودة ترسله، وإنه ليضيف إلى ذلك تكلفًا واسعًا، لألوان البديع وزخارفه، وخاصة السجع والجناس:
وكانت يشغف -كما نرى في هذه القطعة- بالجناس الناقص، ولكن لا تظن أن هذا هو منهج لسان الدين الدائم، فقد كان الكاتب الأندلسي يتنقل بين المفاهيم المختلفة للمشارقة، ومن أجل ذلك كنت ترى عند لسان الدين رسائل كهذه الرسالة تندمج في ذوق أصحاب التصنع، وما تلبث أن ترى له رسائل أخرى تندمج في ذوق أصحاب التصنيع، وقد ينفر من الذوقين جميعًا، كما نرى في كتابه "الإحاطة"، وإذا فابن الخطيب لا يرتبط بمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو يتنقل بين هذه المذاهب، وإن كان أقرب مذهب إلى ذوقه وذوق عصره هو مذهب أصحاب التصنع، ولكن ذلك لا يمنع أن نجد عنده نماذج يحاكي بها أصحاب الصنعة والتصنيع، وهذا شيء لا يختص بلسان الدين ولا بنماذجه، بل هو عام في الأندلس لعصره وقبل عصره، فدائمًا نجد الكاتب الواحد تتوزعه مذاهب المشرق المختلفة، وغاية ما في الأمر أن الأندلسيين، كان يغلب عليهم في العصر الأموي ذوق أصحاب الصنعة، بينما كان يغلب عليهم في عصر ملوك الطوائف ذوق أصحاب التصنيع، أما بعد ذلك فقد غلب عليهم ذوق أصحاب التصنع، ومع ذلك فقد درسنا ابن شيهد، فوجدناه يتوزعه المذهبان الأولان، بينما كان ابن زيدون في عصر ساد فيه ذوق التصنيع، ومع ذلك، فقد رأيناه في بعض رسائله، ينحو نحو أصحاب التصنع من بعض الوجوه، وهذا لسان الدين ذوقه وذوق عصره تصنع، واندمج في التصنع، ومع ذلك فله رسائل تخلو من هذا التصنع، بل قد تخلو من التصنع والتصنيع جميعًا، وهذا نفسه هو ما نريد أن نصل إليه، وهو أن الكتاب في الأندلس، كانوا يخلطون في محاكاة المذاهب المشرقية ونماذجها، فلم يتقيد أحد منهم بمذهب معين من جهة، ولم يدرسوا مذاهب المشرق دراسة علمية منظمة من جهة أخرى، بحيث تتيح لهم هذه الدراسة أن يبتكروا مذهبًا أو يستحدثوا اتجاهًا، فقد كانوا جميعًا يعيشون في إطار المذاهب المشرقية معيشة، تجلعنا نزعم أن أصول هذه المذاهب، كانت أثبت وأروع في تاريخ النثر العربي من أن يصيبها الأقاليم المختلفة بتبديل، أو تغيير.