للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا صحت هذه الكلمة لعزى سلمة، فإنها ترينا أن الكهان كانوا يعتمدون في كهانتهم على السجع، كما كانوا يعتمدون على مثل هذه الأقسام، والأيمان بالأرض والسماء، والطير والشمس، وما يتصل بذلك من القمر والنجوم، والكواكب، والأشجار والرياح، وكل ما يظنون أنه يحمل قوى خفية، وأيضا فإنهم كانوا يعتمدون على الإغراب في ألفاظهم للإيهام، والتأثير في نفوس السامعين.

وهذه هي نفس السمات العامة التي يمكن أن نستنبطها من خلال النصوص الكثيرة التي رويت من سجعهم، ونحن نرى هذه السمات واضحة في هذه القطعة الصغيرة التي رواها الجاحظ لعزى سلمة، وهي سمات طبيعية، إذ كانوا يلجأون إلى الإيهام في أحاديثهم وأقوالهم، وكانوا يعتمدون في هذا الإيهام على الأقسام، واللفظ الغريب ليتيح لهم ذلك ما يريدون من الوهم في أساليبهم، ومعاني كلامهم. وأكبر الظن أنهم كانوا يبالغون في ذلك حتى تنبهم معانيهم وتغمض دلالاتهم، فيكثر عند السامعين الفهم، ويكثر الاحتمال والتأويل، ولعلنا لا نبعد إذا زعمنا أن الكهان كانوا يبنون سجعهم في كثير من جوانبه على الرمز، فإن كهانتهم كانت تقتضي أن يختاروا ألفاظا موهمة توعظ بما يريدون دون أن تفصح -في كثير من أحوالها- عن دلالة بينه، ومهما يكن فإن حرقة الكهان في هذا العصر أثمرت ضربا طريفا من السجع كان يتكئ على الأقسام، والأيمان الموهمة والألفاظ الغريبة.

وأكبر الظن أن فيما قدمنا من حديث عن سجع الكهان، وخطابة الجاهليين وما كان من أمثالهم ما يدل دلالة صريحة على أن ما سلم لنا من بقايا نثرهم، إنما هو شظايا متناثرة من صناعة بليغة كانت تستفيد من أصحابها آمادا واسعة من التعب، والعناء والجهد، والنشاط.

<<  <   >  >>