للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن مصعب أن نحتفظ بها ذاكرة الرواة نحو قرنين من الزمان أو أكثر، فلا تبدل فيها ولا تحرف، حتى يخرج العصر العباسي فيدونها اللغويين والأخباريون.

على أننا نستطيع بعد أن نرفض ما يروى من أقوالهم، وخطبهم أن نعود فنظن ظنا أنهم كانوا يسجعون في خطابتهم، وإلا لما استقر عند جميع من نحلوهم بعض الأقوال، والخطب أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كهانتهم، ومن ثم صاغوا ما نسبوه إليهم من كلام سجعا خالصا، ولعل هذا السجع في كلامهم هو الذي دفع بعض المشركين من قريش إلى الظن بأن ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، إنما هو من كلام الكهان، فقال جل وعز ينقض دعواهم الباطلة: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقد جاء في الحديث النبوي أن الرسول صلوات الله عليه، قضى على رجل في جنين قتلت أمه بدية، فقال الرجل: "أأدى "أأغرم" من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، أليس مثل ذلك يطل١؟ فقال رسول الله عليه السلام: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" ٢، وفي رواية أنه قال له: أسجع كسجع الكهان٣؟ وفي هذا الحديث أكبر الدلالة، وأعظمها على أن الكهان كانوا يستخدمون السجع في كهانتهم، ويقول الجاحظ: "كان حازي "كاهن" جهينة، وشق وسطيح وعزى سلمة، وأشباههم يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، ويروى من سجع عزى سلمة قوله٤: "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء، المجد والسناء"٥.


١ يطل: يهدر دمه.
٢ صحيح مسلم "طبعة الآستانة" ٥/ ١١١، وانظر موطأ مالك "طبع حجر بمصر" ٢/ ١٩٢.
٣ البيان والتبيين ١/ ٢٨٧، وإعجازالقرآن الباقلاني "طبع مطبعة الإسلام" ص٣٢.
٤ البيان والتبيين ١/ ٢٨٩-٢٩٠.
٥ الصقعاء: الشمس، بقعاء: ما أو موضع، نفرهم: حكم لهم بالغلبة، بنو العشراء: عشيرة من فزارة، السناء: الرفعة.

<<  <   >  >>