كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، نزل به الروح الأمين على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم منجما مقسطا في ثلاث وعشرين سنة، حتى تستعد القوى البشرية لتلقي هذا الفيض الإلهي، وهو معجزة الإسلام الكبرى، إذ لم يبلغ أي كتاب ديني، أو دنيوي ما بلغه من
روعة البيان والبلاغة، ومس المشاعر وأسر القلوب، سواء حين يتحدث عن عظمة الله وجلال، أو حين يشرع للناس ما به صلاح معاشهم، وآخرتهم أو يصور لهم الثواب والعقاب، والفردوس والجحيم، أو يقص عليهم من أنباء الرسل الأولين ما فيه عبرة، ومزدجر للمؤمنين.
فقد نزل في أسلوب لا يبارى في قوة إقناعه وبلاغة تركيبه، حتى ليقول الوليد بن المغيرة أحد خصوم الرسول، وقد سمعه يتلو من آياته:"والله لقد سمعت من محمد كلاما، ما هو من كلام الإنس والجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق"١، ويلاحظ الوليد ملاحظة صادقة، هي أن القرآن لا يماثل كلام الإنس، ولا كلام الجن ويلاحظ الذي كان يجري على ألسنة كهانهم، فهو طراز وحده، له سحره البياني، بل له إعجازه الذي انقطعت آمال العرب دونه في محاكاته، أو الإتيان بشيء على مثاله في السيطرة على الألباب والقلوب، وقد تحداهم جل وعز أن يجمعوا أمرهم وكيدهم، فيأتوا بسورة من مثله أو بسور تحاكيه، فعجزوا وذلوا، يقول سبحانه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ويقول تبارك وتعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ويشرح ذلك الجاحظ فيقول:
"بعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب
١ انظر تفسير الزمخشري في سورة المدثر، ومغدق: كثير المياه.