حين يستمعون إلى آية تعنو وجوهم لربهم، ويخرون ركعا وسجدا مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته، وفي ذلك يقول جل وعز:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ويقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . ولا يزال هذا الشعور الذي كان يختلج في قلوب العرب الأولين تخفق به القلوب في كل عصر لما يفتح من آفاق العالم العلوي، ولما يؤثر به في صميم الوجدان الروحي، وهو يمتاز بأسلوب خاص به ليس شعرا، ولا نثرا مسجوعا، وإنما هو نظم بديع، فصلت آياته بفواصل تنتهي بها، وتطمئن النفس إلى الوقوف عندها. وتتنوع الفواصل بين طوال، وقصار ومتوسطة بتنوع موضوعاته وتنوع المحاطبين، فقد كان يغلب عليه الإيجاز والإشارة في بدء الدعوة قبل الهجرة، حين كان يدعو إلى عبادة الله ونبذ الديانة الوثنية، والإيمان بالبعث والنشور، فلما انتقل الرسول عليه السلام إلى المدينة غلب عليه البسط، والإطناب لبيان نظم الشريعة، وما ينبغي أن يكون عليه نظام الحياة الاجتماعية، مما تقتضيه مصالح البشر في حياتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
وقد أثر هذا الكتاب العظيم آثارا بعيدة في اللغة العربية، فقد حول أدبها من قصائد في الغزل والحماسة، والأخذ بالثأر والفخر ووصف الإبل، والخيل والسيوف والرماح، ومن حكم متناثرة لا ضابط لها ولا نظام، إلى أدب عالمي يخوض في مشاكل الحياة والجماعة، وينظم أمورها الدينية والدنيوية. فارتقى الأدب العربي رقيا لم يكن يحلم به العرب، واتسعت آفاقه. وعادة يشير مؤرخو هذا الأدب إلى بعض ألفاظه التي ابتدأها ابتداء مثل القرآن، والفرقان والكافر والمشرك والمنافق، والصوم والصلاة والزكاة، فمدلولات هذه الألفاظ لم تكن حتى كان، والحق أنه جميعه بألفاظه ومعانيه المختلفة يعد ابتداء، بما علم العرب من أسس الإسلام ومبادئه، وبما بين لهم من ماهية الحياة بعد الموت ومن البعث، والنشور ورسالة الرسل، وعبادة الله الواحد الأحد، وبما نظم لهم من حياتهم في الأسرة والجماعة تنظيما ماديا وأدبيا وعقليا وروحيا، تنظيما يكفل لهم الكمال